حديث الجمعة

حديث الجمعة : في رحاب مولدِ الإمامِ الصادقِ ع .. 20-3-1445هـ

في رحاب مولدِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام)

20/3/1445هـ

 

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ. وإن التقوى تعني أن يتولى الإنسانُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ، ومن بعده رسولَهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وأولياءَهُ (عليهم السلام).

فإن هذا هو ما تَهدي إليه الفطرةُ، ويدل عليه العقلُ، ويفرضُهُ النقلُ.

وإن واحداً من هؤلاء الأولياءِ الإمامُ جعفرُ بنُ محمدٍ الصادقُ (عليه السلام)، والذي تصادف ذكرى مولدِهِ مولدَ جدِّه المصطفى (صلى الله عليه وآله وسلم) في السابعِ عشرَ من شهرِ ربيعٍ الأولِ.

وبهذه المناسبةِ نقف وإياكم على محطتين تربويتين أُثِرتا عن هذا الإمامِ الطاهرِ، علَّ ذلك ينفعنا في تحصيلِ الفكرِ القويمِ، والسلوكِ المستقيمِ.

المحطة الأولى: وصيةُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)

لا يختلف مسلمان في أن العملَ بأقوالِ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) واجبٌ، وأن مخالفتَهُ معصيةٌ وضلالٌ، فقد قال تعالى {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران: 132]، وقال تعالى {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].

ولا تختلف الأمةُ في أن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك فيها، ولها، شبكةَ أمانٍ من بعده، تأمن معها من الضلالِ، تمثلت في القرآنِ والعترةِ.

ومما روي عنه في هذا ما أخرجه الحاكمُ أنه قال “إني تاركٌ فيكم ‌خليفتين: كتابَ اللهِ حبلٌ ممدودٌ ما بين السماءِ والأرضِ، وعترتي أهلَ بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا عليَّ ‌الحوضَ”[1].

ولا يختلف أهلُ العلمِ في أن الإمامَ الصادقَ (عليه السلام)، وهو المتفقُ على إمامتِهِ في العلمِ والعملِ به، كان المصداقَ الفردَ في زمانِهِ للعترةِ النبويةِ.

فقد قال الملا عليُّ القاريُّ الحنفيُّ، عن الحسنِ بنِ زيادٍ، عن أبي حنيفةَ أنه قال:

“ما رأيتُ أفقهَ من جعفرِ بنِ محمدٍ الصادقِ! دعاني المنصورُ يوماً وقال: الناسُ قد افتتنوا به، فهيئ له من المسائلِ الشدادِ!

فهيأت له أربعين مسألةً، ثم دعاه، وقال: ألقِ عليه من مسائلِك؛ فألقيتُ عليه واحدةً واحدةً، فجعل يقول: كذا قال أهلُ المدينةِ فيه، وأنتم قلتم فيه كذا وكذا، وأنا أقولُ كذا. فربما تابعنا، وربما تابع أهلَ المدينةِ، وربما خالف الكلَّ.

فلما فرغ قال: ألسنا روِّينا: إن أعلمَ الناسِ أعلمُهم بهذه الاختلافاتِ”[2].

وقال عنه البستيُّ الدارميُّ “ جعفرُ بنُ محمدٍ بنِ عليِّ بنِ الحسينِ بنِ عليِّ بنِ أبى طالبٍ، الذي يقال له الصادقُ، كنيته أبو عبدِ اللهِ، من ساداتِ أهلِ البيتِ، وعبادِ أتباعِ التابعين، وعلماءِ أهلِ المدينةِ”[3].

وقال عنه معاصرُهُ عمرو بن المِقْدَام “كنت إذا نظرتُ إلى جعفرٍ بنِ محمدٍ علمتُ أنه من سلالةِ النبيين”[4].

وقال عنه تلميذُهُ مالكُ بنُ أنسٍ، إمامُ المالكيةِ:

“اختلفت إلى جعفرٍ زمانًا، فما كنتُ أراه إلا على ثلاثِ خصالٍ: إما مصلي[5]، وإما صائمٌ، وإما يقرأ القرآنَ، وما رأيته يحدث عن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم إلا على طهارةٍ، وكان لا يتكلم فيما لا يُعْنيه، وكان من العلماءِ العُبَّادِ الزهادِ الذين يخشون اللهَ”[6].

المحطة الثانية: المعين الصافي

إن مكانةَ العالمِ – أيها المؤمنون – تقوم على أصالةِ علمِهِ، وسلامةِ منهجِهِ. ومن هنا، فقد حرص الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) على أن يكونَ علمُهُ مستقى من منابعِهِ الصافيةِ، ولهذا رفض (عليه السلام) أن يكونَ القياسُ – وهو إعمالُ الرأيِ الشخصيِّ – أصلاً من أصولِ العلمِ والفقهِ.

فقد أخرج الحافظُ أبو نعيمٍ الإصفهانيُّ، بطريقين، عن عمرو ابنِ جميعٍ، وهو من المعاصرين للإمامِ الصادقِ (عليه السلام)، أنه وابنُ أبي ليلى وأبو حنيفةَ دخلوا على الإمامِ، “فقال ‌لابنِ ‌أبي ‌ليلى: ‌مَن ‌هذا ‌معك؟َ! قال هذا رجلٌ له بصرٌ ونفاذٌ في أمرِ الدينِ. قال: لعله يقيس أمرَ الدينِ برأيِهِ.

قال: نعم!

قال فقال جعفرٌ لأبي حنيفةَ: ما اسمُك؟! قال: نعمانُ. قال: يا نعمانُ هل قستَ رأسَك بعدُ؟! قال: كيف أقيس رأسي؟! قال: ما أراك تحسن شيئاً! هل علمتَ ما الملوحةُ في العينين، والمرارةُ في الأذنين، والحرارةُ في المنخرين، والعذوبةُ في الشفتين. قال: لا! قال: ما أراك تُحسن شيئاً، قال: فهل علمتَ كلمةً أولُها كفرٌ، وآخرُها إيمانٌ؟!

فقال ابنُ أبي ليلى: يا ابنَ رسولِ اللهِ! أخبرنا بهذه الأشياءِ التي سألتَهُ عنها.

فقال: أخبرني أبي عن جدي أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم. قال: إن اللهَ تعالى – بمنِّهِ وفضلِهِ – جعل لابنِ آدمَ الملوحةَ في العينين لأنهما شحمتان، ولولا ذلك لذابتا، وإن اللهَ تعالى – بمنِّهِ وفضلِهِ ورحمتِهِ على ابنِ آدمَ – جعل المرارةَ في الأذنين حجاباً من الدوابِّ فإن دخلت الرأسَ دابةٌ، والتمست إلى الدماغِ، فاذا ذاقت المرارةَ التمست الخروجَ، وإن اللهَ تعالى – بمنِّهِ وفضلِهِ ورحمتِهِ على ابنِ آدمَ – جعل الحرارةَ في المنخرين يستنشق بهما الريحَ، ولولا ذلك لأنتن الدماغُ، وإن اللهَ تعالى – بمنِّهِ وكرمِهِ ورحمتِهِ لابنِ آدمَ – جعل العذوبةَ في الشفتين يجدُ بهما استطعامَ كلِّ شيءٍ ويسمع الناسُ بها حلاوةَ منطقِهِ.

قال: فأخبرني عن الكلمةِ التي أولهُا كفرٌ، وآخرها إيمانٌ.

فقال: إذا قال العبدُ لا إلهَ فقد كفر، فإذا قال إلا اللهُ فهو إيمانٌ.

ثم أقبل على أبي حنيفةَ، فقال: يا نعمانُ! حدثني أبي عن جدي، أن رسولَ اللهِ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم قال: أولُ مَن قاس أمرَ الدينِ برأيِهِ إبليسُ. قال اللهُ تعالى له اسجد لآدمَ فقال: {أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين} فمَن قاس الدينَ برأيِهِ قرنه اللهُ تعالى يومَ القيامةِ بإبليسَ؛ لأنه اتبعه بالقياسِ.

زاد ابنُ شبرمةَ في حديثِهِ:

ثم قال جعفرٌ: أيهما أعظمُ قتلُ النفسِ أو الزنا؟ قال: قتلُ النفسِ. قال: فإن اللهَ عزَّ وجلَّ قبِل في قتلِ النفسِ شاهدين ولم يقبل في الزنا إلا أربعةً!

ثم قال: أيهما أعظمُ الصلاةُ أم الصومُ؟!

قال: الصلاةُ.

قال: فما بالُ الحائضِ تقضي الصومَ، ولا تقضي الصلاةَ؟! فكيف – ويحك – يقوم لك قياسُك! اتق اللهَ ولا تقِس الدينَ برأيِك”[7].

إن هذا الحوارَ شاهدٌ على منهجِ الإمامِ (عليه السلام) في استبعادِ الأدواتِ التي لا يصحُّ أن تُعتمدَ في استنباطِ الأحكامِ والمعارفِ الدينيةِ، ومنها القياسُ.

وهو – ثانياً – شاهدٌ على حرصِ الإمامِ (عليه السلام)، وتحملِهِ المسؤوليةَ من أجلِ إشاعةِ المنهجِ الصحيحِ بين أبناءِ الأمةِ.

 وهو – ثالثاً – شاهدٌ على أن الأمةَ إذا تصدى للإمامةِ الدينِيةِ فيها غيرُ الأكفاءِ فإن المخاطرَ تحدق بها حتى إنها لتسيرُ بسيرةِ الشيطانِ من حيث تعرف أو لا تعرف.

وهو – رابعاً – شاهدٌ أن الخللَ المنهجيَّ قد يقع فيه رموزٌ كبارٌ، وأنهم لا يتنبهون إذا نُبِّهوا، حتى لو كان المنبهُ إماماً في مرتبةِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام).

وهو – خامساً – شاهدٌ على أن أهلَ البيتِ (عليهم السلام) هم حملةُ علومِ القرآنِ، والسائرون على نهجِهِ، فلا يفارقونه ولا يفارقهم.

ولم يميز الإمامُ (عليه السلام) في ممارسةِ التقويمِ الفكريِّ بين بعيدٍ وقريبٍ، فقد جاء في خبرٍ يرويه الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، عن حمادٍ بنِ عيسى، عن حريزٍ، قال “كانت‏ لإسماعيلَ‏ بنِ‏ أبي عبدِ اللهِ (عليه السلام) دنانيرُ، وأراد رجلٌ من قريشٍ أن يخرجَ إلى اليمنِ، فقال إسماعيلُ: يا أبتِ إن فلاناً يريد الخروجَ إلى اليمنِ، وعندي كذا وكذا ديناراً، فترى أن أدفعَها إليه يبتاعُ لي بها بضاعةً من اليمنِ؟!

 فقال أبو عبدِ اللهِ (عليه السلام): يا بنيَّ أما بلغك أنه يشربُ الخمرَ؟!

فقال إسماعيلُ: هكذا يقولُ الناسُ!

فقال: يا بنيَّ! لا تفعل! فعصى إسماعيلُ أباه، ودفع إليه دنانيرَهُ، فاستهلكها، ولم يأته بشيءٍ منها!

فخرج إسماعيلُ، وقُضِي أن أبا عبدِ اللهِ (عليه السلام) حجَّ، وحجَّ إسماعيلُ تلك السنةَ، فجعل يطوفُ بالبيتِ ويقول: اللهم ائجُرني، واخلف عليَّ!

فلحقه أبو عبدِ اللهِ (عليه السلام)، فهمزه بيدِهِ من خلفِهِ، فقال له: مه يا بنيَّ! فلا واللهِ ما لك على اللهِ حجةٌ، ولا لك أن يأجرَك، ولا يخلفَ عليك، وقد بلغك أنه يشربُ الخمرَ، فائتمنتَهُ!

فقال إسماعيلُ: يا أبتِ! إني لم أره يشربُ الخمرَ! إنما سمعتُ الناسَ يقولون! فقال: يا بنيَّ إن اللهَ عزَّ وجلَّ يقول في كتابه {.. ‌يُؤْمِنُ ‌بِاللَّهِ ‌وَيُؤْمِنُ ‌لِلْمُؤْمِنِينَ ..﴾ [التوبة: 61]، يقول يصدِّق اللهَ، ويصدِّق للمؤمنين، فإذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم، ولا تأتمن شاربَ الخمرِ فإن اللهَ عزَّ وجلَّ يقول في كتابه {.. وَلا تُؤْتُوْا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ ..}، فأيُّ سفيهٍ أسفَهُ من شاربِ الخمرِ؟! إن شاربَ الخمرِ لا يُزوَّج إذا خطب، ولا يُشفَّع إذا شفع، ولا يؤتمنُ على أمانةٍ! فمَن ائتمنه على أمانةٍ، فاستهلكها لم يكن للذي ائتمنه على اللهِ أن يأجرَهُ، ولا يخلفَ عليه”[8].

فالعقلُ – أيها المؤمنون – نعمةٌ عظمى، لكن لا يجوز أن يتعاملَ معه كما لو كان إلهاً يُعبد من دون اللهِ؛ لأنه – ببساطةٍ شديدةٍ – نعمةُ اللهِ عندنا، ليكونَ أداةَ استكشافٍ لواقعٍ، وليس مصدرَ تشريعٍ مستقلّاً.

ويدل على هذا أن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) – في ما رواه عنه الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) – أكد على أهميةِ العلمِ وطلبِهِ، فقال “اغدُ عالماً، أو متعلماً، أو أحبِب أهلَ العلمِ، ولا تكن رابعاً فتهلكَ ببغضِهِم”[9].

وهذا يعني أن العقلَ وحده لا يكفي؛ لأن دورَه يتمثل في طلبِ المعلوماتِ وتقليبِها لربطِ بعضِها ببعضٍ، واستكشافِ المجهولِ من المعلومِ.

  جعلنا اللهُ وإياكم مَن طلابِ العلمِ، ومحبي أهلِهِ، ومن العقلاءِ الساعين في نيلِ رضا اللهِ ورضوانِهِ، ومن الذين اتقوا والذين هم محسنون، وممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

 

 

[1] صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/ 482، للألباني.

[2] الأثمار الجنية في طبقات الحنفية 1/ 189، ط ديوان الوقف السني.

[3] مشاهير علماء الأمصار ص 205 – 206.

[4] الكمال في أسماء الرجال 4/ 41.

[5] كذا في المصدر المطبوع، وصوابها “مصلٍّ”.

[6] إكمال تهذيب الكمال 2/ 115، – ط العلمية.

[7] حلية الأولياء وطبقات الأصفياء 3/ 196، ط السعادة.

1 الكافي ‏5/300. وعنه: وسائل الشيعة 19/82، الحديث (24207).

[9] بحار الأنوار 1/187.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى