حديث الجمعة

«الخلاص والإخلاص»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الخلاص والإخلاص» يوم الجمعة ٢٦ شعبان ١٤٤٢هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
نستقبل وإياكم بعد أيام شهر رمضان المبارك، سائلين الله عز وجل، أن يختم لنا هذا الشهر بالمغفرة والرحمة وأن يوفقنا وإياكم إلى صيام شهر رمضان وقيامه.
النعم التي مَنّ الله عزوجل، بها على الناس كما نص القرآن الكريم لا تُعد ولا تحصى، هذا المضمون {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا}.
إذا أردنا أن نقرب المسألة وعنوان الحديث هو «الخلاص والإخلاص» المواد الخام في كل حقل من حقول النشاط البشري، متاحة لكل أحد، في كل فن من الفنون، حقل من الحقول، هناك مواد خام للنجارين والحدادين والصيادلة وكل أصحاب تخصص وحرفة، المواد الخام موجودة في الأسواق، تباع وتشترى، لكن، هل كل الناس لو اقتنوا هذه المواد أو أُتيح لهم التصرف في هذه المواد، سيستفيدون منها كما ينبغي أن يستفاد منها أو كما يجب؟
الجواب: بالتأكيد نفيا، لا يمكن.
كل من يملك المعرفة اللازمة والخبرة المناسبة والمهارة الجيدة، هو الذي يستطيع أن يحسن الاستفادة من هذه المواد الخام، كل حسب مرتبته.
فيما يتعلق بالمسائل العبادية، الأمر ينطبق عليه القانون نفسه، ونعني بالأمر العبادي المكان، الأمكنة يعني لا تتساوى فيما بينها، هناك أماكن مباركة، هناك أماكن مقدسة، هناك أماكن عادية.
والأزمنة ايضا تتفاوت، شهر رمضان ليس كغيره من الشهور، الأشهر الحُرم ليست كغيرها، شهر رجب ليس كغيره، شهر شعبان ليس كغيره، هل كل الناس يستفيدون من هذه الفترات الزمنية؟
الجواب: ليس كل الناس يحسنون الاستفادة من هذه الفترات الزمنية التي هي هبة من الله ونعمة من نعم الله عز وجل.
فيما يتعلق في هذا الباب، نستطيع أن نستخلص أن هناك تفاوت بين الناس، على مراتب ثلاث، في كل مرتبة ما شاء الله من التفاوتات.
هناك من يكون بينه وبين المواد الخام أشبه ما يكون بالعدمية، لا يستفيد منها أصلا، لو أردت أن تعد إنجازاته في المواد الخام، لا ينجز شيئا، في الأمكنة وفي الأزمنة وفي المواد الخام وفي العبادات وفي المعاملات، حياته في هذا الجانب تساوي صفرا (٠) أو أنه ينجز شيئا لا يكون متوافقا مع المعايير المناسبة، لأن أيضا مثل ما أن هناك في عالم الدنيا معايير مناسبة، لا يُقبل كل مُنتج، كذلك عند الله عز وجل، يقول {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ}.
فالإنسان إذا تقدم بين يدي الله، بشيء شابه الرياء، شابه شيء من عوامل الفساد، لا يكون مقبولا عند الله سبحانه وتعالى، فهناك فئة من الناس لا يُنجزون.
وهناك فئة أفضل حالاً، هو أنهم ينجزون، لكن إنجازهم متواضع ومحدود، كل حسب مرتبته، لذلك القرآن ماذا يقول؟ يقول {وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} يأمرنا بالعمل، لكن من ناحية ثانية يقول المطلوب منكم ليس أن تعملوا فقط، وإنما أن تتنافسوا في العمل المتقن، في العمل الجيد، في العمل الحسن.
وهناك فئة ثالثة، تأتي في الطليعة، كما جاء في القرآن الكريم على لسان “عباد الرحمن” {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} المطلوب أن يكون الانسان متقدما في مرتبته إلى الله عز وجل.
إذا عِيب على الناس طلب الجاه والشهرة في عالم الدنيا، ففي عالم التقوى والتكامل الحقيقي، ليس أمراً معيبا أن يجعل الانسان همته العالية في تطلب أعلى المراتب عند الله سبحانه وتعالى.
شهر تصرّم، شهر رجب تصرّم وقضى، شهر شعبان أوشكنا على الانتهاء منه، سائلين الله عز وجل، أن ينفعنا وإياكم بما بقي فيه وأن يغفر لنا ما تقدم وما تأخر.
ما الذي يجب علينا أن نفعله فيما يتعلق باستقبال الشهر الكريم؟
ذكرنا أن الأزمنة تتفاوت، وكذلك رغبات الناس وهممهم تتفاوت، ويجب أن نلتفت، أخواني وأخواتي، هو أنه في عالم التديّن وفي عالم الدين، الله سبحانه وتعالى لا يعنيه أن يكون عملك كبيرا، وإنما أن يكون عملك حسنا {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} لم يقل أكثر، لم يقل أكبر، المطلوب أن يكون العمل أحسن.
لذلك، قد يوفق الله عز وجل، الانسان، لو توفرت لديه الرغبة الجيدة والهمة أن يختم حياته بعمل يجعله في أعلى عليين، ومثالا على ذلك، السحرة في زمن فرعون، قضوا حياتهم في عالم الكفر، لكنهم كانوا مغررا بهم، لكنهم كانوا ينشدون الحق والحقيقة، فلما بان لهم الأمر، سرعان ما قلبوا دفة سفينتهم واتجهوا إلى الله عز وجل، وواجهوا فرعون بقول صارم {اقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِي هَٰذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} لكن هذا يتطلب رغبة من ناحية ويتطلب همة من ناحية أخرى.
فقد يأتي لك، يوفقك الله عز وجل، إلى فترة زمنية قصيرة -في نظر الناس- لو أردت أحدا من الناس أن ينجز عمل دنيويا مهما في هذه الفترة، قد يقولون لك:
هذا غير ممكن، لكن في ميزان الله عز وجل، ليس هذا أمرا مهما، طول الزمن وقصره ليس هو المعيار، المعيار هو أن يكون عملك خالصا لوجه الله عزوجل، ولكي يكون عملك خالصا لوجه الله، يجب أن تخلّص نفسك من كل الشوائب التي تحول بين عملك وبين أن يُقبل وتحول بينك وبين أن يوفقك الله عز وجل، إلى عمل حسن مقبول.
كيف يكون ذلك؟
بصناعه التقوى، وهذا ما وفق الله عز وجل، المؤمنين له وأمرهم به، فقال عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} نحن إذن، بين يدي شهر منّ الله عز وجل، به على الناس وكلفهم بما كلفهم به، من أجل تحصيل هذه الغاية العظمى وهي التقوى.
كيف يكون الانسان متقيا المتقين في شهر رمضان؟
الأعمال كثيرة، واجبة ومستحبة، في طليعة هذه الأعمال الواجبة الصيام الذي هو الكف عن عدد من المشتهيات التي يشعر الواحد منا -في غير شهر رمضان- أنه يصعب عليه أن يتركها، كالمأكل والمشرب ومقاربة النساء للرجال والرجال للنساء، لكن في شهر رمضان، المتقون قرارهم سهل، سريعوا الاستجابة لله عز وجل، يكفون عن أهم ما يحتاجه الانسان، مأكله، مشربه، هذه الأمور المهمة، تقربا إلى الله عز وجل، يكف عنها.
هنا ينتقل من عالم إلى عالم ومن مرحلة إلى مرحلة، لكن شرط أن يتوفر على كل ما يهيئه لنفسه من الأجواء اللازمة، وشهر رجب كان تمهيدا، وشهر شعبان كان تمهيدا ثانيا، لأن دخول شهر رمضان ليس متاحا- الدخول الحقيقي- لكل أحد، وإنما متاح لفئة من الناس، لأن هناك من ليس له حظ في الصيام إلّا الجوع والعطش، لا يكون تقيا ولا يصوم صوم المتقين، كما سنقرأ، إن شاء الله.
لاحظوا، هناك أثر يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم تثبت هذه النسبة، ولكن المضمون مُتصيد من عدد من الأعمال، يقول (هلك العاملون إلّا العابدون وهلك العابدون إلّا العالمون وهلك العالمون إلّا الصادقون وهلك الصادقون إلّا المخلصون وهلك المخلصون إلّا المتقون وهلك المتقون إلّا الموقنون وإن الموقنين لعلى خطر عظيم).
إذن، هي مراتب، العبادة مرتبة مطلوبة، لكن هل كل من وُفق لأن يكون عاملا مقبولا؟ لا، قد يكون عمل {وَقَدِمْنَا إِلَىٰ مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}.
كثير ممن لم تحسن عاقبتهم تحصل، كان عملهم وتاريخهم عملهم جيدا وتاريخا مشرفا، لكن الله عز وجل، لم يختم لهم بخير، لأنهم لم يحرصوا على أن ينقّوا عملهم ويبقوا عملهم هذا عملا تقيا.
في الرواية عن عبد السلام بن صالح الهروي المعروف بـ”أبي الصلت” قال دخلت على أبي الحسن علي بن موسى “الرضا” عليه السلام في آخر جمعة من شعبان -يعني هذا اليوم المبارك – فقال لي (يا أبا الصلت إن شعبان قد مضى أكثره وهذا آخر جمعة منه فتدارك فيما بقي منه تقصيرك فيما مضى منه وعليك بالإقبال على ما يعنيك وترك ما لا يعنيك…) يعني يجب أن يعرف الانسان ما الذي يريد ويهمه والذي لا يريده ولا يهمه، هذا (..ما يعنيك..) المؤمن الحكيم المؤمن يرصد كل أعماله العمل الذي لا يقرّبه إلى الله عز وجل، لا يشغل نفسه به، لأنه سيكون على حساب أرصدته التي هو بحاجته إليها، وبالتالي، يحرص على أن يترك ما لا يعنيه، ولا يقصّر فيما يعنيه، فيما هو مسؤول عنه.
ثم يقول عليه السلام (…وأكثر من الدعاء والاستغفار وتلاوة القرآن).
لاحظوا، هذا التوجيه من الإمام عليه السلام ليس في شهر رمضان، حظ شهر رمضان من هذه الأمور محفوظ، هو يريد أن يقول أنت في شهر شعبان مطلوب منك هذا، لأن شهر رمضان، حتى يستقبلك ويقبل عليك، هذا الشهر الكريم، بالاستقبال الحسن والاقبال الحسن، يجب أنت، أن تكون على أتم الاستعداد، وإلّا سيكون زمنا مثل غيره من الأزمنة وستفوتك فيوضات الله عز وجل، فيه.
ثم يقول عليه السلام (…وتُب إلى الله من ذنوبك ليقبل شهر الله عليك) أو في لفظ آخر (إليك وأنت مخلص لله عز وجل).
يتصور بعض الناس أن الاخلاص هو أنه إذا وقف بين يدي ربه في الصلاة، يقول “أصلي قربة إلى الله تعالى” هذا التلفظ يتصور أنه ينقله من عالم غير المخلصين إلى عالم المخلصين…!
الجواب: ليس هذا، الإخلاص حالة روحية قلبية، تجعل من الانسان دوافعه كلها أو على الأقل هذا العمل المعيّن، إنما يدفعه فيه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.
فمثلا، إذا أردنا أن نمتحن أنفسنا في أن عملنا هذا مقبول أو خالص لله عز وجل، كما سيشير الإمام عليه السلام.
تصوّر نفسك، هل تستطيع أن تحمل حقدا وغلاً على أحد من المؤمنين وتزعم أن ذلك هو عمل متقين وذلك عمل خالص لوجه الله عز وجل؟ مستحيل.
يمكن لك أن تخطّئ المؤمن في عمله، لوجدت أن عمله مخطئ، لكن أن تحمل عليه الغل والحقد، بحيث كيف يعرف الانسان نفسه أنه يغل على المؤمنين ويحقد على المؤمنين، من آداب بالمؤمنين أن يصافح بعضهم بعضا -باستثناء العوارض الصحية الطارئة- في الحالات الطبيعية أو يسلّم، يحيّ المؤمنين.
إذا مر مؤمن على مؤمن، في مكان ليس هناك ما يمنعه أن يصافحه وليس هناك ما يمنع أن يسلم عليه، فيكون حقده وغله عليه يحول بينه وبين السلام عليه، يستطيع أن يترجم، يقول: هذا تكليفي الشرعي أنا فعلت هذا…؟! لا يمكن، هذا ميزان، ميزان بسيط وصغير، نتعرّف فيه على أن أعمالنا إنما نقوم بها لوجه الله أو ليس لوجه الله.
وكذلك السُباب والشتائم والإيذاءات والشحناء التي قد تحصل بين المؤمنين، هذا العمل لا يمكن أن يكون خالصا لوجه الله، وبالتالي، لا يمكن أن يتقرب به الانسان إلى الله سبحانه وتعالى.
فلو أن الانسان أراد أن يدخل عليه شهر رمضان وهو في هذا الحال، هذا يعني أنه لن يوفق إلى صيام متقبل عند الله عز وجل، كما ينبغي.
فيقول عليه السلام (…تُب إلى الله من ذنوبك ليُقبل شهر الله عليك) أو (إليك وأنت مخلص لله عز وجل ولا تدعن أمانة في عنقك إلّا أدّيتها) الأمانات المادية، الأمانات المعنوية، شخصٌ حمّلك أمانة من الأمانات وطالبك بها، حلّ وقت سدادها، دَين أو غير دَين، لا يجوز للإنسان أن يماطل في أداء حقوق الناس.
(…ولا في قلبك حقدا على مؤمن إلّا نزعته ولا ذنبا أنت مرتكبُه إلّا اقلعت واتق الله وتوكل عليه في سرائرك…) أو (…في سر أمرك..) اختلاف مصدر (…وعلانيتك ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا..).
ثم يقول، الإمام عليه السلام (…وأكثر من أن تقول فيما بقي من هذا الشهر اللهم إن لم تكن غفرت لنا مضى من شعبان فاغفر لنا فيما بقي).
فإذن، شهر رمضان ليس فقط هو شهر استغفار، وإنما ينبغي أن ينظر إليه أنه شهر تدرج إلى الله وعروج إلى الله عز وجل، فلو أمكنك أن تستغفر الله قبله، ستكون حصيلتك في السير إلى الله سبحانه وتعالى والعيش معه أفضل وأرقى.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى الاستغفار والمغفرة وأن يوفقنا وإياكم إلى صيام شهر رمضان، ولا يفوتني أن أذكّر أن من أهم أعمال شهر رمضان، الإحسان إلى الخلق، بالخصوص المستحقين والمحتاجين.
والحمد لله، في هذه البلدة الطيبة وغيرها من البلدات التي يقطن فيها المؤمنون، الجمعيات وفاعلي الخير.
“جمعية سيهات” كعادتها في كل سنة، كغيره من الجمعيات، يقومون بجهد مشكور في هذا الباب، ينبغي للأخوة المؤمنين والمؤمنات أن يسهموا في هذا الجانب وأن يمدوا يد العون، بالتعاون معهم، لأنهم يستطيعون أن يوصلوا هذه المساعدات إلى مستحقيها، بعد دراسة أحوالهم.
نسأل الله عز وجل، ألا يفوتنا وإياكم تقديم العون للمستحقين من المؤمنين.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى