حديث الجمعة

حديث الجمعة .. الفلاح في الإيمان .. 18-4-1445هـ

الفلاحُ في الإيمانِ

18/4/1445هـ

 

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ؛ فإن في التقوى فلاحاً ينتهي بالإنسانِ إلى السعادةِ، التي يرجوها الناسُ بفِطَرهِم، ويسعى إليها ذوو الهمةِ منهم.

وإن لذلك – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – صراطاً لا ثانيَ له، وهو أن يكونَ الإنسانُ من أهلِ الإيمانِ؛ اعتقاداً وعلماً وعملاً.

وفي تفصيلِ ذلك يقول اللهُ تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (٩) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [المؤمنون: 1-11].

وهذه الآياتُ تبين أولاً – وبضرسٍ قاطعٍ – بأن المؤمنين مفلحون، أي إنهم سيحققون أهدافَهم، ويبلغون غاياتِهم، وأنهم {.. هًمُ الْوَارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾، فالحياةُ طيبةٌ، والسعادةُ أبديةٌ.

وهذه الآياتُ تبين ثانياً، أن للمؤمنين المفلحين سماتٍ لازمةً لهم، تتوزع على مساراتٍ يرتبط بعضُها بالعلاقةِ باللهِ تعالى، ويرتبط بعضُها الآخرُ بالآخَرين، ويرتبط بعضُها بالذاتِ.

وهذه المساراتُ الثلاثةُ محكومةٌ – في أصلِها، وتفاصيلِها – بالإيمانِ باللهِ تعالى وبما يتشعب عنه.

فما هي هذه السماتُ؟

أما السمتان الأولى، والثانيةُ: فهما: المحافظةُ على الصلاةِ أولاً، والخشوعُ فيها ثانياً.

والآياتُ – التي صدَّرنا بها الحديثَ – تقرر أن المؤمنين المفلحين هم الذين {.. فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ}، {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ}.

وهاتان السمتان تعنيان أن المؤمنين المفلحين محافِظون على أداءِ الصلاةِ مبدأً، بل إقامتِها في أوقاتِها، وأنهم مراعون لأحكامِها، ومراقبون لآدابِها، حتى أثمرت فيهم ما شرع اللهُ تعالى الصلاةَ من أجلِه، فلا فحشاءَ ولا منكرَ في نواياهم، ولا في أفعالِهم، ولا في أقوالِهم، لا يختلف حالُهم في ذلك بين سراءَ أو ضراءَ، ولا في سرٍّ وعلانيةٍ، ولا في سلمٍ أو حربٍ، ولا في صحةٍ أو مرضٍ، ولا في حالٍ دون حالٍ.

وفي وصفِ الصلاةِ المطلوبةِ يقول اللهُ تعالى ﴿.. وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ ‌تَنْهَى ‌عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ..﴾ [العنكبوت: 45].

وإذا عرفنا – كما جاء في الحديثِ النبويِّ الشريفِ – أن “الصلاةَ عمودُ الدينِ”[1]، فسنعرف أن الخشوعَ في الصلاةِ، والمحافظةَ عليها، يعنيان قمةَ الخضوعِ للهِ تعالى، ويعنيان – أيضاً – تقويمَ الإيمانِ في عمودِهِ الفقريِّ وهو العلاقةُ باللهِ.

ومَن حسُنت حالُهُ مع الخالقِ تعالى حسنت أحوالُهُ مع الخلقِ.

وأما السمةُ الثالثةُ، فهي: أن المؤمنين المفلحين {.. عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ}.

وهذا يعني أن الإيمانَ يتنافى مع اللغوِ، فهما ضدان لا يجتمعان.

واللغوُ هو الباطلُ من القولِ، أو الفحشُ، أو مطلقُ ما حرَّمه اللهُ، أو ما لا خيرَ فيه من الكلامِ، أو كلُّ ذلك.

قال العلامةُ المجلسيُّ (رحمه الله) “وفسر اللغوُ في بعضِ الأخبارِ بالغناءِ والملاهي، وفي بعضِها بكلِّ قولٍ ليس فيه ذكرٌ، وفي بعضِها بالاستماعِ إلى القُصَّاصِ، وفي بعضِها أن يتقولَ الرجلُ عليك بالباطلِ، أو يأتيَك بما ليس فيك فتعرضَ عنه”[2].

فاللغوُ – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – منافٍ لكرامةِ الإنسانِ، والمؤمنُ حريصٌ على كرامتِهِ.‏

فالمؤمنون – وهم كرامٌ – لا يلغون إذا تحدثوا؛ لأن اللغوَ رذيلةٌ لا تجتمع مع الإيمانِ، وتبعِّد عن الرحمنِ، وتحول دون الجنانِ. لذلك، فإن المؤمنِ الصادقَ في إيمانِهِ لا يلغو.

كما أن المؤمنَ لا يحفل بلغوِ الآخَرين، ولا يشاركهم فيه، ولا يردُّ عليهم بمثلِهِ. قال تعالى ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا ‌بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ [الفرقان: 72]، وقال تعالى ﴿وَإِذَا سَمِعُوا ‌اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ﴾ [القصص: 55].

وقد تكاثرت النصوصُ الشرعيةِ في النهيِ عن اللغوِ.

منها: ما روي عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) أنه قال – في حديثٍ – “.. والانسانُ ينبغي له أن يحفظَ لسانَهُ من اللغوِ والباطلِ في رمضانَ وغيرِهِ”[3].

ومنها: ما رواه الشيخُ الصدوقُ، بسندِهِ، عن الإمامِ السجادِ (عليه السلام) في تفسيرِ الذنوبِ التي تهتك العصمَ، وذكر منها “تعاطى ما يُضحك الناسَ من اللغوِ”[4].

ومنها: ما رواه الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، عن أبي أيوبَ الخرازِ، قال “نزلنا بالمدينةِ فأتينا أبا عبدِ اللهِ (عليه السلام) فقال لنا: أين نزلتم؟ فقلنا: على فلانٍ صاحبِ القيانِ، فقال: كونوا كراماً، فواللهِ ما علمنا ما أراد به، وظننا أنه يقول: تفضلوا عليه! فعُدنا إليه فقلنا: لا ندري ما أردتَ بقولِك: كونوا كراماً، فقال: أما سمعتم اللهَ عزَّ وجلَّ يقول {وإذا مروا باللغو مروا كراماً}”[5].

وقد روي في سيرةِ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) عليِّ بنِ أبي طالبٍ (عليه السلام) أنه مرَّ “.. برجلٍ يتكلم بفضولِ الكلامِ، فوقف عليه، ثم قال: يا هذا! إنك تُملي على حافظيك كتاباً إلى ربِّك، فتكلم بما يعنيك، ودَعْ ما لا يعنيك”[6].

فاللسانُ نعمةٌ، والبيانُ نعمةٌ، ولا يجوز أن نحوِّلَ – باللغوِ – هذه الأداةَ إلى نقمةٍ، كما أن السمعَ نغمةٌ فلنحذر أن نحولَهُ – بالاستماعِ إلى اللغوِ – إلى نقمةٍ.

فاتقوا اللهَ – أيها المؤمنون والمؤمنات – وتجنبوا اللغوَ أن تنطقوا به، أو تكتبوه.

واتقوا اللهَ أن يشغلَكم أهلُ اللغوِ باللغوِ، وإذا خاطبكم الجاهلون قولوا سلاماً.

فهذا من سماتِ المؤمنِ، وهذا ما يقتضيه الإيمانُ.

وأما السمةُ الرابعةُ، فهي أن المؤمنين المفلحين {.. لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ}.

والزكاةُ عنوانٌ عريضٌ يستوعب ما أوجب اللهُ إنفاقَهُ من مالٍ ضمنَ أنصبةٍ محددةٍ، وأموالٍ معينةٍ، وقد يُضاف إلى ذلك كلُّ إنفاقٍ للمالِ في المواردِ المقررةِ شرعاً، بنحوِ الوجوبِ أو الاستحبابِ.

وبالزكاةِ يتجلى إيمانُ المؤمنِ، وإحساسُهُ بالمسؤوليةِ تجاه دينِهِ ومجتمعِهِ، وبالزكاةِ تتلاشى الأنانيةُ والذاتيةُ بمعناها السلبيِّ والقبيحِ.

وأما السمةُ الخامسةُ: فإن المؤمنين المفلحين {.. لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ}.

وهذا يعني أن العفةَ مظهرٌ من مظاهرِ الإيمانِ، وعمادٌ من أعمدتِهِ، فلا مجالَ للعلاقاتِ الجنسيةِ إلا في الإطارِ المشروعِ، والمبينةِ ضوابطُهُ في علمِ الفقهِ.

فالعلاقاتُ الجنسيةُ خارجَ إطارِ الزوجيةِ، وملكِ اليمينِ الذي لا مصاديقَ له هذه الأيامِ، لا تُشرع، والمؤمنُ لا يقربها ناهيك عن أن يقترفَها؛ لأنها عدوانٌ على اللهِ، وعلى النفسِ، وعلى المجتمعِ.

وأما السمةُ السادسةُ، فإن المؤمنين المفلحين هم الذين {.. لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}.

ورعايةُ الأمانةِ والعهدِ عنوانٌ عريضٌ يعني أن يحافظَ الإنسانُ على ما استودع من أموالٍ أو أسرارٍ، أو ما التزم أن يحافظَ عليه من عهودٍ مواثيقَ، فالأمانةُ والعهدُ عنوانان يستوعبان المادياتِ والمعنوياتِ، كما أنه عنوان يستوعب علاقتنا مع الخالقِ والمخلوقين.

فخيانةُ الأمانةِ فعلٌ قبيحٌ، ومحرمٌ، والإخلالُ بالعهدِ فعلٌ قبيحٌ ومحرمٌ.

وقد استفاضت النصوصُ في الحثِّ على رعايةِ الأمانةِ وأدائِها للمؤالفِ والمخالفِ.

فقد روي عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) أنه قال “ثلاثةٌ لا عذرَ لأحدٍ فيها: أداءُ الأمانةِ إلى البَرِّ والفاجرِ، والوفاءُ بالعهدِ للبَرِّ والفاجرِ، وبِرُّ الوالدين بَرَّين كانا أو فاجرين”[7].

وروى الشيخُ الصدوقُ، بسندِهِ، عن أبي حمزةَ الثماليِّ، عن عليِّ بنِ الحسينِ (عليه السلام)، قال “سمعته يقول لشيعتِهِ: عليكم بأداءِ الأمانةِ، فوالذي بعث محمداً بالحقِّ نبيّاً لو أن قاتلَ أبي الحسينِ بنِ عليٍّ (عليه السلام) ائتمنني على السيفِ الذي قتله به لأديتُهُ إليه”[8].

وروى بسندِهِ، عن عمرَ بنِ يزيدَ، قال “سمعت الصادقَ (عليه السلام) يقول: اتقوا اللهَ! وعليكم بأداءِ الأمانةِ إلى مَن ائتمنكم، فلو أن قاتلَ أميرِ المؤمنين (عليه السلام) ائتمنني على أمانةٍ لأديتُها إليه”[9].

إن هذه السماتِ – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – هي ما تميز المؤمنَ عن غيرِهِ، فيكونَ أقربَ إلى اللهِ تعالى؛ لأنه بالتحلي بها يكون قد أزال عن نفسِهِ الشوائبَ والتلوثاتِ التي تدنسُهُ، وبها يكون أقربَ إلى الكمالِ، وبها يكون أحبَّ إلى اللهِ، ومَن أحبه اللهُ تولاه، ومَن تولاه اللهُ كان في كنفِهِ وفي سلطانِهِ، ومن حظي بلك فلا ولايةَ للشيطانِ عليه، فكيف لا يكون مفلحاً؟!

وأما مَن تخلى عن الإيمانِ، فإن الشيطانَ يتولاه فلا تعنيه الفضيلةُ، ولا تسوؤه الرذيلةُ، فيكون العدوانُ على اللهِ عنده عذباً، وعلى عبادِ اللهِ أعذبَ.

جعلنا اللهُ وإياكم من المؤمنين المفلحين، ومن الذين اتقوا والذين هم محسنون، وممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم فرجَ عن أهلِ غزةَ وعمومِ فلسطينَ، وانصرهم نصراً عزيزاً، وافتح لهم فتحاً مبيناً.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، يا كريمُ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

 

[1] وسائل الشيعة في تحصيل مسائل الشريعة 4/ 27، الحديث (4424).

[2] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 64/ 265.

[3] وسائل الشيعة في تحصيل مسائل الشريعة 10/32، الحديث (12754).

[4] م ن 16/281 – 282، الحديث (21556).

[5] م ن 17/ 316، الحديث (22642).

[6] بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 68/ 276.

[7] أمالي الصدوق، وعنه: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 72/ 92.

[8] أمالي الصدوق، وعنه: بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار 72/ 114.

[9] م ن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى