حديث الجمعة

«الوداع المفجع»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الوداع المفجع» يوم الجمعة ٢٤ رمضان ١٤٤٢هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
من المسائل التي أفاض القرآن الكريم الحديث فيها، لأن الناس يحتاجون إلى بيانها من الله سبحانه وتعالى، حتى لا تتيه بهم السبل، هو التكوين النفسي الداخلي للإنسان. فالإنسان لا يمارس في حياته اليومية سلوكياته بعيدا عن مكنونات النفس وإنما هناك تآزر وتعاون وترابط وثيق بين العقل والقناعات فيه من جهة وبين القلب والنفس والمشاعر وبين السلوكيات.
فأنت حينما تقدم على فعل شيء أو تحجم عن فعل شيء إنما ينبع إقدامك هذا أو إحجامك بناءا على مشاعرك تجاه شيء معين تحبه، فتفعله، أو تكرهه، فلا تفعله، ومشاعرك هذه أيضا، لا تنبت من فراغ، وإنما تبنى على سلسلة من العلوم والمعارف والقناعات العقلية، ترى حُسن الشيء فتحبه، فإذا أحببتَه فعلتَه، وترى قبح الشيء، فتبغضه، ثم إذا أبغضته تركته.
ولذلك، فإن الانسان إذا لم تكتمل لديه المنظومة المعرفية بشكل متزن وصحيح ولم تستوي مشاعره النفسية بشكل متزن وعادل، تجده يتخبط، لا تستطيع أن تميّز هذا الانسان، من الصالحين أو من الطالحين، لأنه يخلط عملا صالحا وآخر سيئا.
بعد هذه المقدمة نقول:
الله سبحانه وتعالى، مَنّ علينا بشهر رمضان الذي تصرمت أيامه، ونسأل الله عزوجل، أن يتقبل منا ومنكم ومن المؤمنين والمسلمين جميعا، الصيام والقيام الذي وفقنا الله عزوجل إليه، ومسألة الحزن على فوات شهر رمضان والتفجّع في وداعه، كما أن استقباله والبهجة بدخوله ليسا أمرين غير مستساغين وإنما هما أمران مندوب إليهما من الناحية الشرعية، نفرح بدخوله ونحزن على فواته، لأن الله عز وجل، بيّن لنا فضل هذا الشهر وأن هذا الشهر، هو في الحقيقة مظهر من مظاهر لطف الله عز وجل، ورحمته بعباده، فإن الناس يحتاجون إلى مثل هذا الشهر.
حينما يكلّف الله عز وجل، الناس الصيام في شهر رمضان، لأنه يريد منهم التقوى وإذا أراد منهم التقوى، لأنه يحبهم، لأنه خلقهم من أجل أن يرحمهم، ولنيل رحمة الله عزوجل، سب تجتمع هذه السبل كلها في التقوى { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ }.
رحمة الله عز وجل، الواسعة تشمل الجميع، لكن رحمة الله عزوجل، الخاصة، لا ينالها إلّا المتقون { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ }.
لعلنا ذكرنا في بدايات الشهر أو قبله بقليل، أن الإمام السجاد عليه أفضل الصلاة والسلام، له دعاءان، يستقبل بأحدهما شهر رمضان ويودع بالثاني شهر رمضان، وكما بيّن الإمام صلوات الله وسلامه عليه، سبب ابتهاجه لإقبال شهر رمضان في دعائه الثاني كشف للناس وجوه الفضل والخير في هذا الشهر الكريم، حتى يكون ذلك مدعاة لتوديعه وداعا مفجعا كما سنقرأ بعد قليل، إن شاء الله.
الإمام صلوات الله وسلامه عليه، في هذا الدعاء الشريف، بعد أن يبيّن مدخلا فيه معرفة الله عز وجل، وكيف أن الله سبحانه وتعالى، يتصف بصفات الحسن والجمال كلها وأن من مظاهر لطف الله عز وجل، بعباده، رعايته لخلقه، ثم بيّن أن الله عز وجل اختص هذه الأمة المرحومة بهذا الشهر الكريم، طبعا الصيام كان مفروضا على الأمم السابقة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ } لكن شهر رمضان، يعني قرن الصيام في هذا الشهر الكريم الذي أنزل الله عز وجل، فيه القران هذا يظهر من عدد من النصوص، ومنها هذا الدعاء، أن هذا من مختصات هذه الأمة المرحومة.
ثم بيّن، صلوات الله وسلامه عليه، قبل ذلك، أن المطلوب من قبل الله عزوجل، من الناس هو أن يتوب إليه، والتوبة إليه سبحانه وتعالى، تعني الرجوع إليه كما خلقنا، الله عز وجل، خلق الناسَ في عالم الدنيا طيبين، طاهرين، الطفل الصغير عندما يخرج من بطن أمه لا شائبة فيه، لا يحب من لا يُحَب ولا يكره من لا يُكره وإنما هو صفحة بيضاء صافية.
الله سبحانه وتعالى، يريد منا أن نرجع إليه وصفحاتنا بيضاء نقية أتقياء صالحين لم نلوث عقولنا ولا أنفسنا ولا جوارحنا بما يجعلنا بعيدين عنه سبحانه وتعالى، لكن هل كل الناس يلتزم بهذا؟
للأسف الشديد، ليس كل الناس يُوفق، لكن بالتأكيد الذين صاموا شهر رمضان وفقهم الله عز وجل، إلى قيام شطر منه على الأقل في عبادة الله عز وجل، ممن اختصهم الله عز وجل، بشيء من هذا الباب.
لاحظوا، يقول الإمام صلوات الله وسلامه عليه، يستشهد بهذه الآية، قال (أَنْتَ الَّذِيْ فَتَحْتَ لِعِبَادِكَ بَاباً إلَى عَفْوِكَ وَسَمَّيْتَهُ التَّوْبَـةَ، وَجَعَلْتَ عَلَى ذلِكَ البَابِ دَلِيلاً مِنْ وَحْيِكَ لِئَلاَّ يَضِلُّوا عَنْهُ فَقُلْتَ تَبَارَكَ اسْمُكَ: {تُوبُوا إلَى الله تَوْبَةً نَصُوحـاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّـرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الانْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ})ثم يسترسل الإمام عليه السلام فيقول (أللَّهُمَّ وَأَنْتَ جَعَلْتَ مِنْ صَفَـايَـا تِلْكَ الْوَظَائِفِ …) التي كلّف الله عز وجل، بها الناس (وَخَصَائِصِ تِلْكَ الْفُرُوضِ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي اخْتَصَصْتَهُ مِنْ سَائِرِ الشُّهُورِ، وَتَخَيَّرْتَهُ مِن جَمِيعِ الازْمِنَةِ وَالدُّهُورِ، وَآثَرْتَهُ عَلَى كُلِّ أَوْقَاتِ السَّنَةِ بِمَا أَنْزَلْتَ فِيهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَالنُّورِ..) إلى آخر ما قال.
فالإمام صلوات الله وسلامه عليه، يريد أن يبيّن فضل هذا الشهر حتى يغتنم الناس ساعاته ودقائقه وثوانيه، فضلا عن لياليه وأيامه، لسنا أمام فرصة عادية، ثم يأخذ الإمام صلوات الله وسلامه عليه، في سياق الدعاء المبارك بتقديم التحية الوداعية لشهر رمضان، ويظهر أن هذا الدعاء يُقرأ يوم العيد، تفجعا ووداعا لهذا الشهر، سائلين الله عز وجل أن يعيده علينا سالمين غانمين، حتى نوفق إلى استثماره مرة أخرى، ويذكر عشرين(٢٠) تحية، كل واحدة من هذه التحايا، تستحق التوقف عندها لأنها تبيّن خصوصيات شهر رمضان، ونحن بعد لم ننتهي من هذا الشهر، بقى علينا أيام قليلة، لعل الذكر والتذكير بهذه التحايا يشجع جميعنا، حتى نستدرك بعض ما قصّرنا فيه، والعشر الأواخر من شهر رمضان، كما تعرفون، لها خصوصية.
يقول صلوات الله وسلامه عليه ( وَقَدْ أَقَامَ فِينَا هَذَا الشَّهْرُ مَقَامَ حَمْد وَصَحِبَنَا صُحْبَةَ مَبْرُور، وَأَرْبَحَنَا أَفْضَلَ أَرْبَاحِ الْعَالَمِينَ، ثُمَّ قَدْ فَارَقَنَا عِنْدَ تَمَامِ وَقْتِهِ وَانْقِطَاعِ مُدَّتِهِ وَوَفَاءِ عَدَدِهِ، فَنَحْنُ مُوَدِّعُوهُ وِدَاعَ مَنْ عَزَّ فِرَاقُهُ عَلَيْنَا وَغَمَّنَا وَأَوْحَشَنَا انْصِرَافُهُ عَنَّا وَلَزِمَنَا لَهُ الذِّمَامُ الْمَحْفُوظُ، وَالْحُرْمَةُ الْمَرْعِيَّةُ، وَالْحَقُّ الْمَقْضِيُّ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ: السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَا شَهْرَ اللهِ الاكْبَرَ، وَيَا عِيْدَ أَوْلِيَائِهِ….).
لا أستطيع الخوض في تفاصيل هذه التحايا كما قلت، هي كل واحدة تصلح بندا لحديث مطول.
(السَّلاَمُ عَلَيْكَ يَـا أكْرَمَ مَصْحُـوب مِنَ الاوْقَاتِ، وَيَا خَيْرَ شَهْر فِي الايَّامِ وَالسَّاعَاتِ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر قَرُبَتْ فِيهِ الامالُ وَنُشِرَتْ فِيهِ الاَعْمَالُ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ قَرِين جَلَّ قَدْرُهُ مَوْجُوداً، وَأَفْجَعَ فَقْدُهُ مَفْقُوداً، وَمَرْجُوٍّ آلَمَ فِرَاقُهُ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ أَلِيف آنَسَ مُقْبِلاً فَسَرَّ، وَأَوْحَشَ مُنْقَضِياً فَمَضَّ. السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مُجَاوِر رَقَّتْ فِيهِ الْقُلُوبُ، وَقَلَّتْ فِيهِ الذُّنُوبُ.
السَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ نَاصِر أَعَانَ عَلَى الشَّيْطَانِ وَصَاحِب سَهَّلَ سُبُلَ الاحْسَانِ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا أكْثَرَ عُتَقَاءَ اللهِ فِيكَ وَمَا أَسْعَدَ مَنْ رَعَى حُرْمَتَكَ به…).
اللهم اجعلنا من عتقائك من النار.
(… أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَمْحَاكَ لِلذُّنُوبِ، وَأَسْتَرَكَ لِاَنْوَاعِ الْعُيُوبِ!
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مَا كَانَ أَطْوَلَكَ عَلَى الْمُجْرِمِينَ، وَأَهْيَبَكَ فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ!
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر لا تُنَافِسُهُ الايَّامُ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ شَهْر هُوَ مِنْ كُلِّ أَمْر سَلاَمٌ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ كَرِيهِ الْمُصَاحَبَةِ وَلاَ ذَمِيمِ الْمُلاَبَسَةِ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمَا وَفَدْتَ عَلَيْنَا بِالْبَرَكَاتِ، وَغَسَلْتَ عَنَّا دَنَسَ الْخَطِيئاتِ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ غَيْرَ مُوَدَّع بَرَماً وَلاَ مَتْرُوك صِيَامُهُ سَأَماً.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ مِنْ مَطْلُوبِ قَبْلَ وَقْتِهِ وَمَحْزُون عَلَيْهِ قَبْلَ فَوْتِهِ.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ كَمْ مِنْ سُوء صُرِفَ بِكَ عَنَّا وَكَمْ مِنْ خَيْر اُفِيضَ بِكَ عَلَيْنَا.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْـكَ وَعَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر.
أَلسَّلاَمُ عَلَيْكَ ما كَانَ أَحْرَصَنَا بِالامْسِ عَلَيْكَ وَأَشَدَّ شَوْقَنَا غَدَاً إلَيْكَ.
أَلسَلاَمُ عَلَيْكَ وَعَلَى فَضْلِكَ الَّذِي حُرِمْنَاهُ، وَعَلَى مَاض مِنْ بَرَكَاتِكَ سُلِبْنَاهُ).
الإمام صلوات الله وسلامه عليه في هذه التحايا، في الحقيقة يبيّن لنا، حتى يعيد تشكيل عقولنا معرفيا، فتتوجه نفوسنا قلبيا فنفرح لما يجب أن نفرح له ونحزن لما يجب أن نحزن عليه، وواحد من ما يجب أن نفرح به إقبال شهر رمضان، وواحد مما يجب أن نحزن عليه فوات شهر رمضان، لأن هذا الظرف وهذا التوقيت توقيت لطاعة الله عز وجل، خصوصا في وقت تزداد فيه معاصي الله، الظلم، الاغتصابات، العدوان، البغي على الناس، وما أكثر ما يحيط البغي على الناس، يكفيك أن تجول ناظريك شرقا وغربا، لتجد كم يحتاج الناس إلى رحمة من عند الله عزوجل، شرط أن يتوفروا على أسبابها، فمثلا يقول الله عز وجل { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } يعني أن الله عز وجل، أخذ على نفسه عهدا أن المؤمنين يُنصر، لكنه بجانب ذلك ذكر، قال { إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } فإذا سلب من الانسان حق، وما أكثر الحقوق المسلوبة، البلدان المحتلة، فلسطين محتلة، القدس محتلة، وأمثال ذلك، كيف يستطيع الانسان أن يعيد حقه المسلوب، فردا وجماعة؟ {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ }.
فالرجوع إلى الله والأمر بتقوى الله عز وجل، ليس أمرا ترفيا، هو أمر شديد المسيس بحياتك الخاصة والعامة، سائلين الله عز وجل، ألا يحرمنا وإياكم فضل هذا الشهر الكريم وأن يجعلنا وإياكم فيه، من عتقائه من النار.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى