حديث الجمعة

حديث الجمعة .. «العصبية المذمومة والمحمودة -1» .. سماحة السيد حسن النمر الموسوي

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «العصبية المذمومة والمحمودة (١)» يوم الجمعة ١١ جمادى الثاني ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات،

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الانبياء والمرسلين محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين‫،

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‫.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله‫.

عنوان حديثنا سيكون «العصبية المذمومة والمحمودة» بين يدي الحديث يجب التنبيه الى أن الناس إنما يتواصل بعضهم بعضا، في كثير من جوانب الحياة عبر اللغة، والكلمات والمفردات والجُمل التي يعبّر المتكلم من خلالها عما يريد، ويفترض بالمتلقي أن يستوعب ما أراده المتكلم، فلو أن أحدهما كان يحمل لهذه المفردة معنى والآخر يحمل لها معنى آخرا، لن يتفاهما ولن يتفقا على شيء قد يكونان متفقين عليه، لكن يبدو لهما أنهما مختلفان، كالعصبية.

العصبية – كما سيتبين لنا إن شاء الله- فيها جانب مذموم، وهذا ما يتبادر عند الناس حينما يقال فلان من المتعصبين، العصبية وغير ذلك من النصوص الشرعية التي وردت في ذم العصبية، لكن في العصبية جانب محمود وقد ورد نصوص شرعية تمدح العصبية، بل تشجع عليها، لكن يجب أن نفرق ونفكك بين العصبية المذمومة والعصبية المحمودة.

العصبية في أصل اللغة مأخوذة من العصب، والعصب هو ما يشد به، مثل قول أعصاب فلان قوية، يعني يشيرون الى هذه الكتل العصبية الموجودة في بدنه فتشد أعضاء بدنه بعضها الى بعض، العصابة هي ما يربط على الرأس، وقد يقال للعمامة العصابة، تعصّب فلان، أي اعتم، كذلك أيضا حينما يقال عن جماعة من الناس هذه عصابة، النبي صلى عليه وآله وسلم، في يوم بدر قال (اللهم…) كما يروى في السيرة (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد) هذا ليس وصفا ذميا وإنما وصف مدح، يعني هذه الجماعة.

لماذا تسمى الجماعة عصابة؟ لأنها تجتمع على هدف واحد وعلى آليات موحدة، لكن مع مرور الزمن أصبح عنوان العصابة عنوان ذم، حينما يقال الجماعة الفلانية عصابة، يريدون به الجانب المذموم وليس الجانب المحمود.

لذلك يجب ألا ينساق الانسان دائما، أمام المفردات قبل أن يدرك بالضبط ما الذي يريده هو، وما الذي يريده الطرف الآخر، وقس على هذا الكثير من المفردات.

مثلا، مصطلح الارهاب اليوم مصطلح مذموم، لكن القرآن الكريم، يقول{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ}الانسان إذا صار ضعيفا سهل على العدو أن يفكر في العدوان عليه، بل أن يقوم بالعدوان عليه، لكن إذا كان قويا يُردع العدو حتى عن مجرد التفكير في العدوان عليه، وهذا يحتاج الى أن يشعر بالرهاب، بالخوف، تمارسه أنت بطريقة مشروعة، فإذن ليس هو مذموم على الإطلاق وإن جرى في أوساط الناس التأسيس أو الحديث عنه.

هناك بعض المحطات أو محطات هي محطات تمهيدية مهمة:

المحطة الأولى – أن هناك مبادئ تأسيسية حتى نتكلم بموضوعية عن عنوان العصبية.

المبدأ الاول – هو أن الانسان خلقه الله عز وجل، محبا لذاته.

كل الناس، الأفراد والجماعات يحبون أنفسهم، وليس ذلك أمرا معيبا على الإطلاق، بل إن الله عز وجل، فطر الناس وغرزهم على هذا.

نحن حينما نفكر في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وكل شؤون الحياة، إنما يدفعنا الى ذلك محبتنا لأنفسنا، لكن الله عز وجل، أراد منا أن نترجم هذا الحب بطريقة مشروعة، فحدد لنا مسارات نقتني من خلالها ما نريد من المطعم والمأكل والمشرب وكل ما نحتاجه عبر الطريقة المشروعة، تريد
أن تلبي حاجتك الجنسية بالزواج، لا تعتدي على ما حظر الله عز وجل، عليك، فتأخذ مسارا مخالفا لما أراده الله عز وجل.

تريد أن تأكل؟ إكسب عبر واحد من وسائل الكسب، تملّك المال عبر الطرق المشروعة، الفقهاء يحددون أسباب الملكية، كيف تنتقل ملكية الأشياء من واحد الى واحد، هناك أشياء أنت تقوم بها كالبيع والشراء والمصالحة وما يعرف في علم الفقه بالمعاملات، وهناك أشياء تنتقل ملكيتها إليك ليس باختيار منك وإنما هي فوقك، مثل الإرث يتوفى شخص ويكون له اولاد يرث الأولاد والدهم الذي توفاه الله عز وجل، حتى لو كان الوالد لا يحب الولد ولا أن يكون الولد محبا للوالد، وهذا أمر ليس أمرا حميدا، لكن هذا لا يقطع أو لا يجعل من هذا السبب غير فعّال، إلّا في حالات محددة، معينة كالكفر، الكفر لو أن الولد كان كافرا لا يرث أباه، ولو كان الوالد كافرا لا يرث ولده، وكذلك أيضا القتل، لو أن الوالد قتل ولده عمدا، لا يجوز، ليس له حق في الإرث والعكس لو أن الولد قتل أباه لا يرث، وإلّا من حيث المبدأ الإرث سبب، المهر سبب، المعاملات التجارية سبب.

فإذن، هناك مسارات محددة، كل هذا لأن الله عز وجل، فطرنا على محبة أنفسنا، ولم يلمنا على ذلك، بل إنه أوجب علينا، أن نحافظ على ذواتنا التي نحبها، مثلا لو أن الانسان تعرض الى مخاطر صحية، كالأوبئة التي ابتُلي بها الناس هذا الوباء المعروف، هل يجوز للإنسان أن يتراخى عن رعاية الاجراءات التي أو يوصي بها المتخصصون؟

الجواب: كلا، يجب عليه أن يراعي هذه الاجراءات في المساجد والحسينيات والأسواق وأماكن الاختلاط كلها، لأن الله عز وجل فطرك محبا لنفسك وفطر الآخرين محبين لأنفسهم وحرّم على الجميع أن يعرّضوا أنفسهم للخطر، هذا حب للذات مشروع، فإذن، هذا مبدأ اول.

وقد تقول كيف، ما هي علاقة هذا بالعصبية؟ – سنأتي على ذكر كيف – يرتبط الانسان من خلال محبته لذاته الى أن يكون متعصبا، بحق وهو ممدوح أو بباطل وهو مذموم.

المبدأ الثاني – هو الانسان كائن منتمي، هي بالعربية منتمي يخففونها في آخرها حرف العلة، الانسان كائن منتم، يعني لا تجد إنسانا خلو من الأفكار، كل الناس إذا عاشوا في بيئة اجتماعية معينة، ثقافية معينة، تتشكل عقليته، نتيجة هذه الثقافة التي يتلقاها عبر التربية وعبر التدريس وعبر المطالعة وعبر الاحتكاك بالآخرين، يتشكل لديه وعي، هذا الوعي يجعله ينتمي الى هذه المجموعة الفكرية ويتخلى عن المجموعة الأخرى أو العكس، أو يتأرجح بين هذه وتلك، يكون لديه انتماء لهذه المجموعة بنسبة، وللمجموعة الأخرى بنسبة أخرى، نسمّيها هويّات، يقولون هويّات صغرى وهويّات كبرى وقد يكون لك أكثر من انتماء.

أنت لك انتماء الى بيتك، أبيك وأمك، وانتماء الى أخوتك، ولك انتماء الى أقاربك القريبين، أبناء عمومتك وأبناء خؤولتك، ولك انتماء أوسع الى عشيرتك الكبيرة، ولك انتماء الى أبناء بلدك، ولك انتماء الى أبناء دولتك ولك انتماء الى أبناء قوميتك ودينك وهكذا، ولا تعارض بين هذه الانتماءات، لكن يجب تنظيمها.

ماذا لو حصل هناك احتكاك سلبي بين واحد من هذه الهويّات؟ الشريعة تنظم لك ذلك – كما سنأتي إن شاء الله على ذكره – ما الذي ينتج عن هذين المبدئين التأسيسيين، أنك محب لذاتك وأنك منتمي؟

ينتج عن ذلك الولاء، الولاء هو ما نسميه بالتعصب لجهة ما، أنت حينما تتدين بدين الاسلام – ثبتنا الله وإياكم إن شاء الله على انتمائنا وصدق انتمائنا الى هذا الدين – أنت تتولى الله ورسوله وأولياءه، لأنك تحب نفسك وتجد في هذا الولاء نجاة نفسك، وتنتمي الى هذه المجموعة، هذا الدين، لأنك محب لنفسك ولا تستطيع أن تقول أنا لا أريد أن أنتمي فكريا، لا يمكن.

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل، يخاطب النبي { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عابدونَ ما أعْبُدُ} بين عبادة الله وعدم عبادته ليس هناك حل وسط، أما أن تعبد الله فتكفر بما دونه، وأما أن تعبد ما دون الله فتكفر بالله، لا تستطيع أن تقول أنا غير منتمي.

لذلك، حينما نقول الإلحاد دين، يتصور هؤلاء الملاحدة أنهم تخلوا عن الدين، هذه أكذوبة، هذه خرافة، أنت، هذا الانسان الذي انتقل من التدين بأي دين الى الإلحاد هو في الحقيقة انتقل من انتماء الى انتماء، ومن دين الى دين، الفرق أن الدين الأول، سواء كان اليهودية، النصرانية، الإسلام، هذا دين ينتسب الى الله، فيسمى بالدين السماوي، أو ينتمي الى دين أرضي، الإلحاد هي مجموعة أفكار تبناها الناس، نسمي هذا دين أيضا، وبالتالي، لا يخلو أحد من الناس من حالة الانتماء.

والولاء إذا كان الانسان عنده ولاء، انتماء وولاء، هل يخلو أحد من الناس من التعصب والعصبية الى مبدأ ما؟ لا تجد أحدا إلّا وعنده عصبيته، لكن نرجع نقول يجب أن تنظم هذه العصبية بطريقة مشروعة.

مثلا، حينما الآن يركز الناس، حينما يتحدثون عن حب الوطن، حب الوطن نوع من أنواع العصبية، لكنها عصبية محمودة، ليست مذمومة، حينما يقال حب الوطن من الايمان يعني لا يمكن للإنسان أن يعيش في بلد وفي تجمع يستفيد منهم ويستفيدون منه، ثم يقول أنا عاطفيا لا محبة لي لهذا الوطن، سواء كان البلدة، المدينة، القرية، الدولة، ليش [لماذا]؟ لأن هذا يخرج عن كونه سويا من الناس، لا يمكن، الناس يفيدونك وأنت تستفيد منهم وهم يستفيدون منك، يعني أن هناك علاقة محبة، يفترض أن تكون متبادلة، نعم، ماذا لو أن المجتمع الذي تعيش فيه والبلد الذي تعيش فيه والتجمع البشري الذي تنتمي اليه، قام بسلوك يتنافى مع محبتك لنفسك.

في الرواية ماذا عندنا؟ النهي عن أن يكون الانسان إمّعة، الإمّعه يعني إذا سادت قناعة في أوساط جماعة من الناس، هناك من يقول “حشر مع الناس عيد”..!

هو يريد أن يعطل ما آتاه الله عز وجل، من الأفكار يقول أنا لست ملزما بأن أفكر وأحلل إن هذا المسار الذي اختاره المجموعة التي أنتمي إليها، حتى لو كان هذا التجمع البشري أباك، أمك، أخاك، أهلك {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} القرآن يؤكد على أنه إذا تعارض الولاء لله والولاء للأب والأم، محبتك لذاتك ما الذي تفرض عليك؟ أن تنحاز الى الله الغني الوهاب الرزاق، أو تنتمي إلى أبيك الذي قد تستفيد منه ببعض المكاسب الآنية؟!.

هنا يتجلى الإيمان، المؤمن يقوم بعملية موازنة، أي الهويّات يقدمها؟ فإذا كانت الهويّة الأساسية هي الحق، قدّمها على الإطلاق دون الاستثناء.

فإذن، العصبية ليست مذمومة على الاطلاق، جزء منها حميد، وجزء منها مذموم، يجب أن يشخص الحميد فيتمسك به ويجب أن يشخص الذميم، فيتجنب، وهذا يحتاج الى عمل مضاعف، لا يبدأ من التعليم، بل يبدأ قبل ذلك – سنأتي إن شاء الله في أبحاث لاحقة، لماذا أوصانا الاسلام على أن نحسن اختيار الزوجة حتى نتخلص من قضية الطلاقات التي كثرت، وبعض الاخوة اقترح أن نتحدث عن الطلاق، مثلا ما هي هذه الظاهرة؟ ما هو أسبابها؟ قسم مهم من أسبابها هو سوء الاختيار وسوء التربية – الانسان إذا رُبي على ألا يكون اختياراته مبنية على الرشد والنضج، يتعجل في الاختيار ثم تبدو له الثمرة السيئة بشكل سريع، فيأخذ قرارا خاطئا، يعني قرار خاطئ أول دفعه الى قرار خاطئ ثاني، يعالج خطأه الأول بخطأ ثاني.

في السابق، لو أنه أحسن الاختيار لصلح حاله، وحال من اختارها زوجة له وحال أسرتيه، لكن حينما يسوء اختياره، العلاقة لا تسوء بينه وبين زوجته التي اضطر أن يطلقها، بل تسوء العلاقة بين الأسرتين، السبب ما هو؟ خليت الحكمة للأسف الشديد من هذا الولد ومن هذه البنت التي تعجلت بالقبول وخليت الأسرة أيضا، أسرة هذا الولد وأسرة هذا البنت بالتعجل، في أنهما وافقا على هذا الولد دون أن يدرسا حالته، هل يصلح لابنتهما أو لا يصلح؟ قد يكون صالحا في نفسه، لكنه ليس صالحا لهذه البنت، النبي صلى الله عليه وآله، فيما يروى عنه يقول (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ترضون، كيف ترضى أنت عن الدين والخلق؟ تشاهده لمرة واحدة فترضى عن دينه وأخلاقه، أو لابد أن تكثر من معاشرتك له، يختلف إليك، تختلف إليه يتردد عليك، تتردد عليه، تسأل عنه وتلّح في السؤال.

ابنتك هذه أمانة، لا تستعجل في الموافقة على من يتقدم إليها، قد يكون من أقاربها ولا يصلح وقد يكون بعيدا عنها وهو الصالح لها، أو العكس، فينبغي للإنسان أن يكون حكيما، انطلاقا من محبته لنفسه، محبتك لابنتك أنت تترجم محبتك لذاتك في محبتك لابنتك، وكذلك بالنسبة الى الولد، ولا تجعل عوامل أخرى ضاغطة عليك، فتغلب هذه العوامل الطارئة، التي ليست هي بالضرورة صالحة لك على المدى البعيد، على محبتك لولدك وعلى محبتك لنفسك وعلى انتمائك ثم تتجلى لك الخسائر كبيرة.

اسأل الله عز وجل، أن يوفقنا وإياكم الى أن نكون ممن يستمع القول فيتبع أحسنه. للحديث تتمة إن شاء الله.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا،

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى