حديث الجمعة

حديث الجمعة «ثقافة الأولويات (٣)» يوم الجمعة ٢٣ ربيع الثاني ١٤٤٤ هجري

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «ثقافة الأولويات (٣)» يوم الجمعة ٢٣ ربيع الثاني ١٤٤٤ هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

ربّ اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقه قولي،

 

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله،

 

كنا قد تحدثنا عن الأولويات وتحويلها إلى ثقافة بحيث تحكم حياة الإنسان، وإنما قلنا ذلك أو وصفنا هذا العنوان بثقافة الأولويات؛ لأن الناس جميعاً يتفقون على أن الأولويات مقدمّة على غيرها، لكنهم يختلفون في أمرين، الأول: تشخيص الأولويّات.

هل أن هذا من الأولويّات أو لا؟ وهذا يبتني على أساس ما يؤمن به الشخص من أفكار وقناعات. فالأولويّات عند المسلم قد تختلف عند غير المسلم، الأولويّات عند المؤمن تختلفُ عن غير المؤمن، الأولويّات عند الملتزم المتدين تختلف عن الأولويات عند غير المتدين وإنْ اتفقَا في الدين والمذهب، فإذاً هذا جانب.

الجانب الثاني: الناحية العملية. ليس كل من آمن بمبدأ الأولويات وأنها متقدمة على غيرها، وليس كل من اتفق مع الناس على أن هذا بالفعل من الأولويات يُمارس ذلك عملياً، لذلك نحتاج إلى العمل على هذين الصعيدين، تشخيص الأولويات من جهة، وتثقيف أنفسنا وتعويدها. وأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام فيما يروى عنه يقول: «العادات قاهرات» إذا عوّد الإنسان نفسه على شيء، على أن هذا مبدأ يحكم حياته وينظم سلوكه، دائماً تجده إذا تزاحم الأمران يقدم ما هو أولى على ما ليس بأولى، ما هو أهم على ما هو المهم مع أنه مهم،  لكن حتى في دائرة ما هو مهم هناك أهم وهناك مهم، فضلاً عن أن يكون الشيء غير مهم أصلاً.

لاحظوا الإنسان يطرأ عليه أحياناً، يلتزم لديه التزامات معينة مواعيد معينة مع صديق، مع عزيز، مع زبون من الزبائن، لكنه قد يعفي نفسه من الالتزام بذلك الموعد مع إشعار الطرف الآخر بأنه قد طرأ عليّ طارئ. متى نسمي هذا طارئ؟ اذا كان أهم من الالتزام بذلك الموعد كما إذا كان هذا الأمر الطارئ وقته محدودًا ضيق لا يسمح المجال بأن يؤخر ويؤجل، فتكون بين أن تلتزم بموعدك السابق الذي يقبل أن يراجع الموعد ويحدد له موعد جديد، وبين هذا الأمر الطارئ الذي لا يسمح بالتأخير. هذا نسميه مبدأ رعاية الأولويات. لكن يجب وينبغي لنا أن نجعل هذا ثقافة بحيث يحضر ذهن الإنسان دائماً في تشخيص الأولويات وتقديمها على غيرها. لماذا نفعل ذلك؟ لأن عمر الإنسان محدود فإذا شُغل بما هو غير مهم، بل بما هو مهم لم يلتزم بما هو مهم وما هو أهم  ضاع حياته، فقد يأتي بتلك المقولة التي ساقها لنا الله -عز وجل- عمن وصفهم بالمجرمين حيث يقولون عند الموت «رب ارجعون لعلّي أعمل صالحاً فيما تركت» يأتيه الجواب الحاسم كلا! لا يمكن للإنسان. لا يستقدمون ولا يستأخرون.

أسوق على ذلك مثال في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الرواية أنه أتى -عن الإمام الرضا -عليه السلام- – يقول: «أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بدينارين فقال: يا رسول الله أريد أن أحمل بهما في سبيل الله». يعني إنفاق في الجهاد في سبيل الله. «فقال: ألك والدان أو أحدهما؟ قال: نعم قال: اذهبْ فأنفقهما على والديك، فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله» هذا مقدم على هذه يعني لا تقصر في حق أبويك وهما واجب النفقة عليك، الجهاد في سبيل الله هناك من يحمله غيرك، أنت فقير وأبواك، والداك واجب النفقة عليك. بالنسبة لك في تكليف الجهاد تكليفًا عامًّا بعده لم يصل إليك شخصيًا لم يتعّين عليك، لو تعيّن عليه لما خاطبه النبي صلى الله عليه وآله بهذا، لكن قال الإنفاق في سبيل الله، ما دام هناك آخرون يتولون الإنفاق تكليفك المباشر يتقدم على التكليف العام. «فرجع ففعل، فأتاه بدينارين آخرين» يعني بعد مدة. «قال: قد فعلت» أنفقتهما على والدي «وهذان ديناران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله. قال: ألك ولد؟ قال: نعم. قال: فاذهب فأنفقهما على ولدك فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله» لاحظوا هنا التزاحم ليس بين أمرين أمر لا قيمة له والأمر الآخر له قيمة. كلا هذين الأمرين مهم في أعلى درجات الأهمية في تشريع الإسلام، الجهاد في سبيل الله والإنفاق على الوالدين أو الإنفاق على الأولاد. «فرجع ففعل فاتاه بدينارين آخرين فقال: يا رسول الله قد فعلت وهذان ديناران آخران أريد أن أحمل بهما في سبيل الله فقال: ألك زوجة؟ قال: نعم. قال: أنفقهما على زوجتك، فهو خير لك أن تحمل بهما في سبيل الله. فرجع فأتاه بدينارين آخرين فقال: يا رسول الله، قد فعلت، وهذان ديناران أريد أن يحمل بهما في سبيل الله فقال: ألك خادم» عندك خادم في البيت جارية مملوك عاملة في البيت؟ «قال نعم، قال: اذهبْ فأنفقهما على خادمك فهو خير لك من أن تحمل بهما في سبيل الله ففعل، فاتاه بدينارين آخرين» يعني المرة الخامسة، لاحظوا الأولويات كيف رتبها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) له. «فقال: يا رسول الله، وهذه ديناران أحمل بهما في سبيل الله فقال: احملهما واعلمْ بأنهما ليسا بأفضل دنانيرك» لا تتصور أن هذا أفضل من تلك الدنانير الثمانية التي أنفقتها على والديك أولاً وولدك ثانياً وزوجتك ثالثًا وخادمك رابعًا.

النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين له أن هناك أولويّات ينبغي أن تراعى في الحياة حتى فيما كلّفنا به. فضلاً عما لو اشتغلنا بأشياء لم نكلف بها، بل قد كُلفنا بأضدادها وخلافها وهذا ما يشتغل به أغلب الناس.

لذلك الإمام السجاد -عليه السلام- قرأنا هذا المقطع يقول: «أم رأيتني آلف مجالس البطالين، فبيني وبينهم خليتني». هذا من سوء التوفيق. يظن بعض الناس أن اشتغاله بهذه الأمور غير المهمة ليست ذات مردود في الدنيا ولا في الآخرة يجد أن هذا أمر مبرر، لا! «الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما». إنما خلقنا الله -عز وجل- في هذه الدنيا من أجل العمل، لكن أيّ عمل؟ {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [سورة الملك – 2]. فإذا كان للشارع المقدس نظر في مسألة من المسائل أن هذه أحسن من تلك كما فعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). وهنا يأتي دور التفقه. الإنسان إذا لم يتفقه في دينه ولم يركن إلى الفقه لا يستطيع أن يوازن بين أن هذا أهم وذاك مهم.

 

لاحظوا في كثير من الاستفتاءات الشرعية يسأل الفقيه -يُستفتى- فيقول إلا إذا زاحمه أمر أهمّ منه. ولا يشخّص هذا، لأنه قد نحتاج إلى تشخيص أن هل هذا أهمّ أو ذاك أهم؟ إما أن نعرفه بما نملك من الخلفية الفقهية والعلمية أو نجد أنفسنا بحاجة إلى أن نتعرف. يعني مثلاً دينك أولى من كل شيء «إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة». هنا ما الذي قدمه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في اختيار الزوج؟ أو في الرواية الأخرى: «عليك بذات الدين تربت يداك». قدّم الدين وقدم الأخلاق أي الطباع الحسنة. لا ينبغي لأحد أن يربي ابنته سنين متطاولة تصل إلى سن الزواج المتعارف ثم يتقدم لها من هبّ ومن دبّ من الناس ثم يستعجل في اتخاذ قرار تزويجها، إما لأنه يملك مالاً أو يملك وظيفةً أو يملك جاهاً ويغفل عن أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضمن لنا ضمانين، أو جعل لهذه البنت سياجين يحميانها من أن تُظلم أو تفسد حياتها وهما الدين والأخلاق. يعني لو أن الإنسان زوّج ابنته رجلاً ذا دين، صاحب الدين لا يظلم المرأة وإن اختلف معها وإن تشاكس معها في أمور كثيرة، اختلفا اختلافاً شديداً، لكن دينه يمنعه من أن يظلم فإن ظلم فلا دين له، هذا ما ينبغي أن نفعله. النبي صلى الله عليه وآله وسلم يكرّس ثقافة الأولوية ويجعلها في كثير من التطبيقات.

نقرأ تطبيقاً آخراً أن الإمام الصادق -عليه أفضل الصلاة والسلام- دخلت امرأة عليه: فقالت: أصلحك الله -هذا دعاء للأمام، لا بأس به، يعني ليس لأن الإمام غير صالح وتدعو له بالصلاح لا هذا دعاء كان مألوفاً. فقالت: أصلحك الله إني امرأة متبتلة. فقال: وما التبتل عندك؟» متعبدة «فقالت لا أتزوج لأي سبب من الأسباب قال ولم!؟ قالت: ألتمس بذلك الفضل». أنا أريد ما هو أهم من الزواج تبتل و انقطاع عن الزواج يعينني على هذا. «فقال: انصرفي فلو كان ذلك فضلاً لكانت فاطمة عليها السلام أحقّ به منك أنه ليس أحد يسبقها إلى الفضل». الإمام أيضاً هنا يعطي مفتاح هي ظنت أن هذه أولوية أن تتبتل وتنقطع عن الزواج ظنًّا منها أنه يفرغها إلى ما هو أهم. الإمام (عليه أفضل الصلاة والسلام) أعطاها المفتاح، لستِ أفضل من فاطمة إذا كانت فاطمة لم تتبتل هل أنت أفضل من فاطمة حتى يكون خيارك مقدماً على خيار فاطمة؟! لم وافقت فاطمة عليها السلام أن تتزوج -بغض النظر عن من هو زوجها- لأن هذه قد يفتح باب شبهة تقول إن فاطمة تزوجت بشخص مثل علي وأين لي مثل علي؟ لا! الإمام الصادق -عليه السلام- يؤكد على فكرة الزواج، لم يذكر أمير المؤمنين -عليه أفضل الصلاة والسلام- وإن كان هو زوجها لكن يريد أن يقول مبدأ الزواج بالنسبة للمرأة مقدّم على تبتليها كما ظنت هذه المرأة، هذا نموذج آخر. أيضاً، أهل البيت -عليهم أفضل الصلاة والسلام- يريدون أن يُكَرِّسُوا هذا المبدأ  نَظَرِيَّةً وَتَطْبِيقًا لا نستغني عنه.

أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام -كنموذج أخير- يقول: «إن الناس إلى صالح الأدب أحوج منهم إلى الفضة والذهب» أيضاً هنا يعطينا قاعدة، يقول مبدأ التفاضل والأولويات هذا يسلم به الناس، لكن في مقام التشخيص يخطئون، قد يظنًّ كثيرٌ من الناس أنَّ الفضةَ والذهبَ أهم شيء. أمير المؤمنين، يقول تخطئون إن ظننتم ذلّ من يحسب أن الفضة والذهب أفضل من الأدب هذا مشتبه؛ الفضة والذهب إذا كانت تعطي للإنسان مكانةً، تعطيه راحةً؛ فإنما يحصر فوائد ذلك ومنافعه في عالم الدنيا أولاً، وما كانت باقية عنده.؛لأنه قد يتعرّض لخسارةٍ إذا سُرق منه فضته وذهبه وكان مكانته بين الناس منوطة بالذهب والفضة. غداً الناس سينفضون عنه وهذا مُشاهد. كثير من الناس تجدهم يحوم كثيرٌ من الناس حولهم في حالات الغنى والثراء، فإذا أُصِيبُوا بِانْتِكَاسَةِ يأخذون شيئا فشيئًا بالانفضاض عنه كما انفضَّ الناس عن مسلم -صلوات الله وسلامه عليه-.

فإذاً، هنا نحتاج إلى ما هو الشيء الذي لا يمكن أن نخسره؟ أدبك لا تخسره، أدبك هو رصيدك الذي يقربك إلى الله -عز وجل- ومن بعد ذلك إلى الخلق هو الذي يسعدك في الدنيا ويسعدك -أهم من ذلك- في الآخرة. الإنسان المؤدب، الإنسان المتخلّق بالأخلاق الحسنة، الإنسان الحصيف في هذا الجانب، لو ألمَّت به مصيبةٌ تجدْ أنه هادئٌ ساكن مطمئن في حين أن ذاك الذي عنده الفضة والذهب تجده شديد القلق. تُفاجأ تسمع في الأخبار فلان الثري قالوا انتحر. أي لماذا ينتحر؟ قالوا والله مضائق الحياة! مضائق الحياة هذه موجودة عند كثير من المؤمنين لا يجدون لقمة العيش؛ لكن هذا عنده نفس مطمئنة {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [سورة الرعد – 28] هذا نوع من أنواع الأدب، الأدب الذي يتحلّى به في نفسه في علاقته بربه، في علاقته مع الناس. فإذاً هذا أيضاً يؤكد نؤكد هذه الفكرة، هذا المشروع الرباني الإلهيّ، نحتاج إليه في الشكل نحتاج إليه في المضمون. أيضاً كثيرٌ من الناس قد يهتم بأولويّات فيما يتعلّق بشكله حتى يبدو بين الناس بمظهر حسن. لكن حذارِ من أن تحتكَّ به في معاملةٍ من المعاملات! حذارِ أن تتواصل معه فيما يتجاوز حدود الملابس وحدود المظاهر والشكليّات! تجده إنساناً آخر.

أمير المؤمنين -عليه أفضل الصلاة والسلام- في هذا النصّ، ورسول الله (صلى الله عليه وآله) في النصّ الأول، والإمام الصادق -عليه السلام- في النصّ الثاني، كل هذه الأفكار تصبُّ في أن الأولويات أمر مهم، رعايتها أمر مهم وتحويلها إلى ثقافة أمر أهم من كل هذا. كيف نستقيه؟ إنما نستقيه بالتفقه.؛ولذلك نلتفت إلى ما قال الله -عز وجل-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} وما روي عن الإمام الباقر -عليه أفضل الصلاة والسلام-: «لو أُتيت بشاب من شباب الشيعة لم يتفقه أو -لا يتفقه في الدين- لأوجعت ظهره بالسوط».؛لأن الإسلام ودين الله لا يريد من الناس أن يتعبد الله -عز وجل- بالقهر والجبر، كما كان المشركون يقولون ويبررون انحرافهم {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [سورة الأنعام – 148] هذه فكرة خاطئة. الله -سبحانه وتعالى- يريد من الناس أن يتدينوا باختيارهم؛ لأن هذا مصيرك لو أن الناس أجبروك على أن تتدين ظاهراً ولم تكن كذلك في الباطن عند الله -سبحانه وتعالى- لا قيمة لهذا التدين. ولو أن الناس أجبروك على بعض مظاهر غير التدين وكنت في واقعك من المتدينين، تكون مثل ذاك المؤمن مؤمن آل فرعون نسأل الله -سبحانه وتعالى- أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

 

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظاً وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعاً وتمتعه فيها طويلاً.

 

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى