حديث الجمعة

حديث الجمعة .. النبيُّ محمد (ص) مربياً (6) .. 1/6/1445هـ

النبيُّ محمد (ص) مربياً (6)

1/6/1445هـ

 

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ، فإن اللهَ تعالى يقول {إِنَّ الْأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].

وفي سياقِ حديثِنا عن البعدِ التربويِّ في شخصيةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نقف – في جولةٍ سادسةٍ – على قاعدةٍ تربويةٍ على درجةٍ عاليةٍ من الأهميةِ، بعد التذكيرِ بالمهمةِ الأولى التي كُلِّف بها، والمتمثلةِ في ركنين:

أحدهما: تعليمُ الناسِ الكتابَ والحكمةَ.

ثانيهما: التزكية

وهذا ما بيَّنه اللهُ تعالى في آياتٍ منها قولُهُ عزَّ وجلَّ ﴿.. أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ ‌الْكِتَابَ ‌وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 151].

وقد قام الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذه المهمةِ خيرَ قيامٍ، فكان دأبُهُ وديدنُهُ، الأخذَ بأيدي الناسِ إلى عالم الإحسانِ والإتقانِ والإحكامِ؛ لأن هذا هو – أولاً – ما أراده اللهُ من الناسِ، ولهم، وهو – ثانياً – ما يحببهم عنده، ويقرِّبهم إليه.

وقد أدى النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأمانةَ بأفضلِ ما يمكن أن يحملَها بشرٌ، فتلا الكتابَ، وبلغ السنةَ بأفضلِ خطابٍ.

ومما جاء في الآياتِ الكريماتِ من صورٍ لهذه الأمانةِ:

أولاً: التأكيدُ على مقامِ الإحسانِ، وأن الله يحب المحسنين، وبيانُ ما يكون سبباً فيه.

وفي ذلك يقولُ اللهِ تعالى ﴿وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

ثانياً: التأكيدُ على فضيلةِ التوبةِ، وقيمةِ الطهارةِ، وهما من الإحسانِ، وأنهما يوجبان محبةَ اللهِ تعالى.

وفي ذلك يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ﴿إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: 222].

ثالثاً: التأكيدُ على حسنِ القتالِ في سبيلِ اللهِ، والصبرِ عليه، والثباتِ فيه، وأن ذلك كلَّهُ جوهرُ الإيمانِ وسمةُ المؤمنين الربانيين.

وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ‌وَاللَّهُ ‌يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ [آل عمران: 146].

رابعاً: التأكيدُ على قيمةِ العدلِ والقسطِ في الحكمِ والقضاءِ، وأن ذلك مدعاةٌ لمحبةِ اللهِ تعالى.

وفي ذلك يقولُ اللهُ تعالى ﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ ‌اللَّهَ ‌يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [المائدة: 42].

فهذه نماذجُ مما كلَّف اللهُ تعالى نبيَّهُ في الكتابِ الكريمِ أن يبينَها للناسِ، ويعلمَهم إياها، ويزكيَهم عليها.

فإذا يممنا – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – صوبَ سيرتِهِ العطرةِ، وسنتِهِ الشريفةِ، فسنجد نماذجَ كثيرةً، حرص النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها على تربيةِ الناسِ على قيمةِ الإحسانِ والإتقانِ والإحكامِ في كبارِ الأمورِ وصغارِها، وفي الشؤونِ العامةِ والخاصةِ.

ومما روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذا الصددِ وصيتُهُ لأبي ذرٍّ (رحمه الله)، التي قال فيها “.. يا أبا ذرٍّ، اغتنم خمساً قبل خمسٍ: شبابَك قبل هرمِك، وصحتَك قبل سقمِك، وغناك قبل فقرِك، وفراغَك قبل شغلِك، وحياتَك قبل موتِك. يا أبا ذرٍّ! إياك والتسويفَ بأملِك، فإنك بيومِك ولستَ بما بعده. يا أبا ذرٍّ! إذا أصبحتَ فلا تحدث نفسَك بالمساءِ، وإذا أمسيتَ فلا تحدث نفسَك بالصباحِ، وخذ من صحتِك قبل سقمِك”[1].

فإن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الفقرةِ من وصيتِهِ ينبه أبا ذرٍّ – وَمن تبلغه وصيتُهُ – أن يحسنَ اغتنامَ ما منَّ اللهُ تعالى به من نعمٍ على الإنسانِ، وهي نعمةُ الشبابِ، ونعمةُ الصحةِ، ونعمةُ الغنى، ونعمةُ الفراغِ، ونعمةُ الحياةِ، فإن أضدادَ هذه النعمِ آتيةٌ لا محالةَ، فإن بعد الصحةِ سقماً، وبعد الغنى – بمعناه العامِّ – فقراً، وبعد الفراغِ شغلاً، وبعد الحياةِ موتاً، وهذه الأضدادُ معيقاتٌ لأعمالٍ كثيرةٍ يتمنى المصابُ بها لو أنه أنجزها قبل أن تهجمَ عليه.

لذلك، فإن التقاعسَ وضعفَ الهمةِ، وتبديدَ العمرِ والقدراتِ في ما لا يعود على الإنسانِ بالخيرِ في عاجلِهِ وآجلِهِ، منافٍ للإحسانِ، وعملٌ بخلافِ ما علمنا إياه الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) وما دعا إليه من الحكمةِ.

وقد روي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال “إن اللهَ يحب من الخيرِ ما يعجَّل”[2].

ومما روي من وصايا نبيِّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام) قولُهُ “يا عليُّ، إذا أردتَ مدينةً أو قريةً فقل حين تعاينها: اللهم إني أسألك خيرَها، وأعوذ بك من شرِّها، اللهم حبِّبنا إلى أهلِها وحبِّب صالحي أهلِها إلينا”[3].

فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الوصيةِ يحدد ما ينبغي أن يُقصدَ من كلِّ سفرٍ، وأنه الخيرُ، فالأسفارُ التي لا يراد بها الخيرُ، ولا يُرجى منها الخيرُ، ناهيك عن الأسفارِ التي يراد بها الشرُّ والعصيانُ؛ إنها أسفارٌ تُضادُّ الإحسانَ، ولا ترضي الرحمنَ.

ثم إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) نبه – ثانياً – إلى أهميةِ أن يَسألَ العبدُ ربَّهُ خيرَ البلادِ المقصودةِ، واستدفاعَ شرِّها، فإن قصدَ الإنسانِ الخيرَ ودفعَ الشرِّ لا يكفي إلا أن يشاءَ اللهُ تعالى ذلك، وهذا ما لا يُستغنى فيه عن الدعاءِ، فإن اللهَ سبحانه يقول ﴿قُلْ ‌مَا ‌يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ..﴾ [الفرقان: 77] .

وقد نبه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الوصيةِ – ثالثاً – إلى أن في كلِّ بلدٍ جماعاتٍ من الناسِ فيهم الصالحون وغيرُ الصالحين، فلو أحبوك جميعاً فبها ونعمت، لكن حذارِ أن تميلَ بمحبتِك إلى غيرِ الصالحين منهم حتى لا تتأثرَ بهم فتكونَ غيرَ صالحٍ مثلَهم، وهذا خلافُ الإحسانِ.

ومما روي عن نبيِّنا (صلى الله عليه وآله وسلم) في تأديبِهِ للمسلمين أنه قال “إذا عثرت الدابةُ تحت الرجلِ فقال لها: تعستِ، تقول: تعِس أعصانا للربِّ”[4].

وفي هذا الأدبِ ينبه النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن على الإنسانِ أن يدققَ في كلماتِهِ حتى مع البهيمةِ التي لا تعقل بالنسبةِ لنا، فإنها إنما تعثر – إذا عثرت – بغيرِ قصدٍ منها، فما هو المبررُ لأن تُشتَم بالكلمةِ النابيةِ؟!

وفي الحديثِ تنبيهٌ إلى أن الشاتمَ لها ليس أطوعَ للهِ تعالى منها.

وفي هذا السياقِ روي عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) “أن يقالَ للإماءِ: يا بنت كذا وكذا، فإن لكلِّ قومٍ نكاحاً”[5]، أي أن يُنالَ من أعراضِ أمهاتِهن حتى لو كن مشركاتٍ!

 فالعبرةُ – إذن – بطاعةِ اللهِ، والخطرُ في معصيتِهِ، ولو بالكلمةِ تقالُ دون تبصرٍ.

ولا ريبَ أن الإنسانَ إذا ملك ناصيةَ الأدبِ مع الحيوانِ، فسيكون كذلك مع الإنسانِ، وهذا من الإحسانِ.

 ومما روي عن النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه “كان يغير الأسماءَ القبيحةَ في الرجالِ والبلدانِ”[6].

فقد روي أنه “مرَّ بأرضٍ تسمى (غدِرة)، فسماها (خضِرة)”[7].

وروي أنه قال لامرأةٍ تسمى عاصية) “أنت جميلة”[8].

ومن طرائفِ ما في البابِ ما رواه سعيدُ بنُ المسيبِ، عن أبيه، أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لجدِّهِ: “ما اسمُك؟ ” قال: حَزْن، فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله وسلم) “بل أنت سهلٌ”. لكنه – لسوءِ حظِّهِ وحرمانِهِ نفسَهُ من تأديبِ الرسولِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إياه – قال “لا أغيِّر اسماً سمانيه أبي!”، وفي لفظٍ آخرَ “أبواي”[9].

قال سعيد: فما زالت فينا حزونةٌ بعدُ!”[10].

فمن الإحسانِ للإنسانِ أن يُتخيَّرَ له اسمٌ حسنٌ، فالاسمُ شعارٌ وهويةٌ، وقد جاء في وصيةِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم) لعليٍّ (عليه السلام) قولهُ “يا عليُّ! حقُّ الولدِ على والدِهِ أن يحسِّن اسمَه ُوأدبَهُ، ويضعَه موضعاً صالحاً”[11].

وأخيراً، فإن النبيَّ سعى لأن يكونَ الإحسانُ ثقافةً عامةً حتى في الأمورِ التي لا يبدو أن الإحسانَ والإتقانَ فيها مهمٌّ، فقد روي عن الإمامِ الصادقِ (عليه السلام) أنه قال “سمع النبيُّ (صلى الله عليه وآله) امرأةً حين مات عثمان بنُ مظعونَ وهي تقول: هنيئا لك يا أبا السائبِ الجنةُ! فقال النبيُّ (صلى الله عليه وآله): وما علمُك؟! حسبُك أن تقولي: كان يحب اللهَ عزَّ وجلَّ ورسولَهُ، فلما مات إبراهيمُ بنُ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله) هملت عينُ رسولِ اللهِ بالدموعِ، ثم قال النبي (صلى الله عليه وآله): تدمع العينُ، ويحزن القلبُ، ولا نقول ما يسخط الربَّ، وإنا بك يا إبراهيمُ لمحزونون، ثم رأى النبي (صلى الله عليه وآله) في قبره خللاً فسوَّاه بيده، ثم قال: إذا عمل أحدُكم عملاً فليتقِن” ثم قال: الحق بسلفك الصالحِ عثمانِ بنِ مظعونٍ”[12].

ففي هذا الحديثِ تربيةٌ نبويةٌ على الإحسانِ والإتقانِ في ثلاث مسائلَ:

أولها: أن النبيَّ (صلى الله عليه وآله وسلم) نبه المرأةَ إلى أن لا تقولَ ما ليس لها به علمٌ، فإن عثمانَ بنَ مظعونٍ – وإن كان صالحاً كما قال الرسولُ (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذيلِ الحديثِ – لكن الشهادةَ له بالجنةِ ليس من شأنِ المرأةِ التي لا تعلم بذلك، لكنه ارتضى منها أن تشهدَ لابنِ مظعونٍ بما تعرفه منه وهو محبةُ اللهِ تعالى ورسولِهِ (صلى الله عليه وآله وسلم).

ثانيها: تشريعُ الحزنِ على الميتِ، وإن كان طفلاً صغيراً، حتى تدمعَ العينُ ويحزنَ القلبُ، بشرطٍ أن لا يتفوهَ الحزينُ بما يسخط الربَّ.

ثالثها: إتقانُ العملِ أيِّ عملٍ – باعتبارِهِ سبباً لنيلِ محبةِ اللهِ – حتى في حَفرِ القبرِ، وهو ليس سوى حفرةٍ تسوَّى بالأرضِ بعد أن يوارَى جثمانُ الميتِ فيها.

وفقنا اللهُ وإياكم لأن نكونَ من المحسنين وممن يتقن عملَهُ، ويسعى في نيلِ رضا ربّهِ، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا وإياكم من الذين آمنوا واتقوا والذين هم محسنون.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

 

 

 

[1] أمالي الطوسي. وعنه: وسائل الشيعة 1/ 114، الحديث (285).

[2] أصول الكافي. وعنه: وسائل الشيعة 1/ 112، الحديث (277).

[3] من لا يحضره الفقيه. وعنه: وسائل الشيعة 11/ 444، الحديث (15214).

[4] الكافي. وعنه: وسائل الشيعة 11/ 487، الحديث (15336).

[5] تهذيب الأحكام. وعنه: وسائل الشيعة 21/ 200، الحديث (26892).

[6] قرب الإسناد. وعنه: وسائل الشيعة 21/ 390، الحديث (27379).

[7] صحيح ابن حبان – التقاسيم والأنواع 7/ 463.

[8] م ن، الحديث (6799).

[9] سير أعلام النبلاء 4/ 221، ط الرسالة.

[10] م ن. 464، الحديث (6801).

[11] بحار الأنوار 74/60.

[12] الكافي 3/262 – 263.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى