حديث الجمعة

حديث الجمعة .. «الأمن الاجتماعي»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الأمن الاجتماعي» يوم الجمعة ٥ ذوالحجة ١٤٤٢هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن الله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}.

 خلق الله عز وجل الناس أفرادا وجماعات وبنى في كل واحد منهم نظاماً محكما، لا يستطيع الانسان أن يتصرف فيه وهو الجانب التكويني، عقلك، قلبك، جوارحك، الدم يسير بغير اختيار منك، القلب ينبض بغير اختيار منك، كله هذه التفاعلات الداخلية لستَ تتحكم فيها، لا بقليل ولا بكثير، فعلينا أن نحافظ على هذا النظام ولا نعرضه لشيء من الخطر والضرر، وبالتالي، فإن كل الجانب الصحي ملحوظ من الناحية الشرعية، قد لا يعطينا المشرّع التفاصيل الصغيرة، وإنما يكلها إلى أهل الاختصاص، لأن هذا شيء يستطيع الناس عبر التجربة والدراسة، أن يتعرفوا على ما ينفع وما يضر، وإن لم نُعدم في النصوص الشرعية التوجيهات العامة، الجزئية فيما يتعلق بالجانب الصحي، هذا جانب.

لكن هناك جانب آخر خلقه الله عز وجل، فينا وهو الفطرة، الفطرة التي تنزع بنا إلى حب الخير وحب المنفعة والمصلحة، ثم بعث إلينا رسلاً وأنبياء، يبينون لنا ما هي الطرق المؤدية بنا إلى هذه النتائج والموانع والسدود والعقبات التي يمكن أن تعترضنا في هذا الطريق، وهذا هو ما تمثله الشرائع والدين.

الله سبحانه وتعالى، أراد منا أن نكون شكورين، لأن بالشكر، الانسان يستزيد نعم الله.

كيف نؤدي شكر الله؟ بعث إلينا عددا كبيرا من الأنبياء، ختمهم بأفضلهم “محمد” صلى الله عليه وآله وسلم، حتى كمُل الدين على يديه وتمت النعمة، وأمرنا أن نلتزم، أحد أشكال الالتزامات والأوامر التي جاءت في هذا الدين هي “القول السديد”.

لماذا نحتاج إلى أن نتقي الله وأن نقول قولا سديدا، وما هو “القول السديد”؟

له أبعاد وتطبيقات كثيرة، يعنيني منه ما يتعلق بـ«الأمن الاجتماعي» وهو موضوع حديثنا هذا اليوم وسأتناوله بإيجاز شديد جدا.

نحن إذا أردنا أن نشبّه المجتمعات التي يحتاج كل واحد منا فيها إلى الآخر، بحيث لا تستطيع أن تستجلب مصالحك بعيدا عن مصالح الآخرين، ولا تستطيع أن تدفع الضرر عنك، ما لم تساعد الآخرين عن أن يدفعوا الضرر عنهم، مثل هذا الوباء الذي حل بالبشرية اليوم، هو حدث في أقصى العالم، لكن لم تُستثنى بقعة من بقاع الأرض، وبالتالي يجب على الجميع أن يتعاونوا من أجل أن يدفعوا عن أنفسهم هذا الضرر، لا تستطيع أن تقول أن هذا الوباء حصل في شرق الأرض وأنا في غربها ولا يعنيني الأمر، لا، يعنيك، لأنه سياتي إليك شئتَ أم أبيت، هذه سنة الله عز وجل في خلقه.

“القول السديد” يعني الفكرة و{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} يتحدث الحق عز وجل، فيها عن الملائكة وما هو دورهم {كِرَامًا كَاتِبِينَ} ماذا يكتب الملائكة، يكتبون القول فقط ؟ لا، يكتبون القول والفعل، القول الظاهري والقول الباطني، تفكيرك قولوا، اعتقاداتك قولك، تترجمها من خلال الأفعال، فحينما يقول الله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} ليس فقط الكلام الطيب مطلوب منا والقول السديد، أي الصحيح، لا، مطلوب منا ألّا يصدر منا كلام باطل بسبب فكرة باطلة موجودة عندنا، وهذا يحتاج الى جهد جهيد، لا يوفق إليه إلّا القلة من الناس، القلة الذين وصفهم الله عزوجل في القرآن الكريم بأنهم “أولوا الأبصار” بأنهم “أولوا الألباب” ولب الانسان عقله، لذلك {وَما يَعْقِلُها} في القرآن الكريم عن كثير من آيات الله، الله عز وجل، يقول {إِلَّا الْعَالِمُونَ} يعني الانسان إذا توفر على حد أدنى من العلم والعقل، فسمع آيات الله عز وجل، وتُليت عليه، كل آية من آيات الله تؤثر فيه، حتى إذا نزلت آيات الله عز وجل، ما يقول عن الذين عاصروا النبي {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا} كان معيار الارتقاء بالإيمان ليس القرآن كمجموع، الآية الواحدة كانت ميزانا، لتمييز فلان عن فلان.

ولذلك الحق سبحانه وتعالى، يقول في بعض التعابير القرآنية {لَهُمْ دَرَجَاتٌ} وبعض الآيات القرآنية يقول {هُمْ دَرَجَاتٌ} لأن الانسان إذا عمل عملا صالحا أو نعوذ بالله عمل سيئا، صار جزءا من شخصيته، أنت هنا تصنع جنتك وذاك الشقي -أبعدنا الله وإياكم عنه وعن عمله- يصنع ناره، كيف يصنع ذاك ناره ويصنع المؤمن جنته؟ بقوله وبفعله، لذلك مطلوب منا أن نعمل على هذا.

السبب ما هو؟ ليس فقط لأنك بذلك تحقق مصلحتك الفردية، بل تحقق مصلحة المجتمع التي يعنيك أن يصلح حاله حتى يصلح حالك، إذا فسد المحيط الذي أنت فيه، ستتعسّر عليك، إن لم يتعذر على بعض الناس أن يكون صالحا، لأن بعض الناس لسان حاله ماذا يقول ” حشر مع الناس عيد”.! لا يستطيع أن ينعزل عن المجتمع، إذا كنت تقدّر أنك عاجز عن أن تعزل نفسك عن المجتمع وكان المجتمع غير صالح، سيصيبك شيء من لوثته، فإذا حرصت على نفسك، لا، يجب أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، حتى تحقق «الأمن الاجتماعي» الذي يرجع بالنفع إليك.

لاحظوا الرواية التي يرويها “الإمام الرضا” عليه أفضل الصلاة والسلام، عن آبائه عن “أمير المؤمنين” عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال -باعتبارك واحد من المجتمع كيف يجب أن تسلك، ما الذي يجب عليك أن تفعله وما هي حقوقك لو أنك فعلت هذا، لأن الاسلام لا يحدثنا بما يجب علينا فقط، بل يؤمن لنا حقوقا في مقابل هذه الواجبات، فيقول صلى الله عليه وآله وسلم (من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممن كملت مروءته وظهرت عدالته ووجبت أخوّته وحرمت غيبته).

لو أردنا أن نشبّه الفرد في المجتمع، إذا أردنا المجتمع ككل متماسك، اللبنات إذا أردنا أن نشيّد بنيانا، نحن لا نضع حجرا فوق حجر فقط، وإنما نضع بين الحجر والحجر ما يكون سببا لربط هذه اللبنة بتبك اللبنة، المسمى عندنا اليوم بـ”الإسمنت” أو ما يقوم مقام “الاسمنت” هذه المادة التي تتسبب بلصوق هذه اللبنة بتلك، والتزاقها كلما كانت أقوى، كلما كان البنيان أشد إحكاما.

لكن قد تشيّد بنيانا بلبنات مهترئة، وقد تكون اللبنات جيدة لكن البيان غير جيد، فيجب أن نعمل أولا على أن تكون اللبنة وهو أنت أيها المؤمن مصنوع صناعة جيدة، لا نتحدث عن الجانب التكويني، هذا فعل الله، لا تستطيع أن تفعل شيئا، لذلك على الانسان أن يذعن لله في كيفية خلقته، إذا خلقك الله بشكل معيّن، بطول معيّن، بعرض معيّن، إيمانك يقضي أن ترضى بما قسمه الله عز وجل، لك، لا أن يسخط الانسان، لما خلقني الله بهذا الطول، لما خلقني الله بهذا الشكل…!

لا، لا، الله سبحانه وتعالى أعرف بك وبمصلحتك خلقك بهذا الطول ولو استثمرت طولك هذا واستثمر فلان طوله الآخر وفلان ما آتاهم الله عز وجل، لعلم كل واحد منهم أن مصلحته فيما خلقه الله عز وجل له، نحتاج نحن إلى هذا التفاوت، حتى يتكامل البعض، مثل الطابوق بالضبط، مثل اللبنة، نحتاج لبنة كبيرة ولبنة صغيرة ولبنة  مستقيمه ولبنة معوجة، لأن أحيانا تحتاج تدوير زوايا، اعوجاجات، كذلك أنت يسقط منك شيء في البيت وتكون من خلق الله عز وجل، ببنية كبيرة، تحتاج إلى ولدك الصغير أو أخيك الصغير ليعينك على استخراج شيء من مكان لا تستطيع أن تصل إليه، أنت احتجت إليه، ولو لم يكن موجودا لصرت في ضائقة.

فإذن، علينا في هذا التنوع في الذي خلقنا الله عز وجل، عليه، أن نستثمره، هذا جانب تكويني، لكن في الجانب الطبعي، في الجانب الاختياري {لا إكْراه فِي الدِين} يستطيع الانسان أن يكون من المؤمنين ويستطيع أن يكون -نعوذ بالله- من الكافرين، هذا ما يتحدث عنه الدين.

النبي صلى الله عليه وآله، هنا فقط في مقام الوصف يقول من فعل كذا، سيحصل على هذه النتيجة؟ لا، هو يصف، لكنه في الوقت نفسه يحض ويحث ويأمر، حينما يقول (من عامل الناس فلم يظلمهم) يعني عامل الناس ولا تظلم، لأنه يعدك في آخر الحديث، في آخر كلامه صلوات الله وسلامه عليه، يعدك بحق ألزم الناس به، وقد ذكر من الحقوق في هذا النص أكثر مما ألزمك من الواجبات، ألزمك بثلاث وأعطاك أربع. ما الذي ألزمك به؟

أولاً – ألزمك إذا عاملت الناس أن لا تظلمهم.

الظلم هو إنقاص الآخرين حقوقهم، في الجانب المادي، في الجانب المعنوي، والمعاملة كل تصرف بينك وبين الآخرين، في دوائرك القريبة ودوائرك البعيدة، بينك وبين أهلك، بينك وبين أبيك، بينك وبين أمك وأخوانك وأخواتك وأصدقائك، بل حتى بينك وبين من تعرف ولا تعرف، بل حتى بينك وبين من تعرف وتحب ومن لا تعرف ولا تحب، لأن الله عز وجل يقول {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} تريد كرامة من الله، كن من أهل التقوى، كيف تكون من أهل التقوى؟ أن تكون ممن إذا عامل الناس لم يظلمهم، بأي شكل من أشكال المعاملة، لا تقع في أي نحو من أنحاء الظلم، وعنوان المعاملات كثير، وعنوان الظلم أيضا كثير-يحتاج أن نقف عند واحد واحد منها- نحن فقط الآن نتحدث عن العنوان العام.

كل مجتمع، إذا تعامل الناس بعضهم ببعض فيه، يظلمون بشكل أو بآخر، يعني يحققون نوعا من أنواع الإفساد والفساد في الأرض، بنية هذا المجتمع تضعف، وإذا ضعفت بنية هذا المجتمع يهترئ، إذا اهترأ لا يُرجى منه، يكونون (غثاء كغثاء السيل).

لاحظوا حال العرب قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وآله ويستجيبوا له وبعد أن بعث الله إليهم الرسول صلى الله عليه وآله، واستجابوا له، الفرق كما المسافة بين السماء والأرض، كانوا أمة مشرذمة، يتلاعب بها القاصي والداني، بل يزعج بعضهم بعضا، يتمنون أن تأتي أيام الحج يوم الحج -مثل هذه الأيام المباركة- حتى يأمن الواحد منهم على نفسه، حتى يصل الى بيت الله عز وجل، الحرام، هذا مقدار ما كان عليه الناس قبل الإسلام، بعد الإسلام، استقر في أوساطهم الأمن والسلام، حتى جعل الله عز وجل، تحية المسلمين فيما بينه” السلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

هذا المنطق، إذا فُرض على الناس وشاعت ثقافة السلام، عمّ الأمن، يعني يتعاونون على البر والتقوى، لكن لو لم تعمّ في أوساطهم هذه الثقافة، تنشأ الحروب وإذا نشأت الحروب والعدوات والخصومات، أصبح كل واحد لا يفكر إلّا في مصلحته، وبالتالي حرم نفسه كل المصالح الأخرى.

فإذن هذا الأمر الأول، معاملة الناس الآخرين دون ظلم، من دون فرق بين أن يكون الطرف الآخر، في بيع، في شراء أو غير ذلك، هذا التعامل التجاري والاقتصادي.

الثانية – ثم يقول (وحدّثهم فلم يكذبهم…).

والتعبير دقيق، النبي لم يقل “وحدثهم فلم يكذب عليهم” لا، أعطى تعبيرا أعم.

“كَذَبَ الناسَ” يعني يصدق عليه أنه كذب عليهم، أخبرهم وهو يعلم بأنه لا يخبر عن الواقع كما هو، “فلان ذهب” يقول لهم “جاء”، “فلان جاء” يقول لهم “ذهب”، “فلان لم يسمع” قال “سمع”، “فلان رأى” يقول “لم ير” يعني يعكس الأمور، وأحيانا، لا، الانسان لا يخبر عن الواقع بغير ما هو عليه عن قصد، وإنما عن غير قصد، نسمّيه “الخطأ”، النبي يتكلم عنه، يقول (وحدّثهم فلم يكذبهم…) يعني أخبرهم وقد عرف الشيء على ما هو عليه، في حدود ما آتاه الله عز وجل، من القدرة.

لماذا نحترز بهذا الاحتراز والنبي نبّه الى هذا؟

لأن أحيانا نحن نفسد الأمن الاجتماعي وتركيبة المجتمع من دون قصد، نسمع نصف الكلام ثم ننقله إلى الآخرين، فيتحقق من المضار على هذا الكلام كما لو كان كذبا بشكل كامل، لأن نصف الحقيقة كذب في كثر من الأحيان.

لو أن أحدا أراد منك أن تشهد على واقعة، تقول “ألم ترى فلانا يظلم فلانا؟”..!

لا، أنت رأيت فلانا يضرب فلانا، أنت ما رأيته يظلم، رأيتَه يضربه، لكن هل هذا الضرب مشروع أو غير مشروع؟ هذا يحتاج أن تعرف خلفيات المسألة، قد يكون ضربه بحق وقد يكون ضربه بغير حق، لذلك، النبي ماذا يقول صلى الله عليه وآله وسلم، في مقام الشهادة؟ أشاره إلى الشمس، لمن أراد أن يشهد، قال (على مثل هذه فاشهد).

لا تتقدم بالشهادة على أمر لم تعرف أوله وآخره ووسطه، هذا أمر مهم جدا.

فالذين يسترسلون في أحاديثهم مع الناس، مثل هذه الأيام، وسيلة التواصل الاجتماعي نعمة، الناس كأنت صداقات الواحد منهم محدودة، في السابق كان الشاب يكبر ويصل إلى سن العشرين سنة، قد لا يخرج من حارته ولا يعرفه إلّا الذين عاصروه في تلك الحارة، خمسة، عشرة، أقل، أكثر، اليوم يشترك في “تويتر” ويشترك في “يوتيوب” ويشترك في وسائل التواصل الاجتماعي، فيتعرف على آلاف ويتعرف عليه آلاف، لا تفرح كثيرا بهذه المعرفة، لأنها تلقي عليك أعباءا ومسؤوليات.

ليس من حقك أن تكتب وتنقل وتتكلم وتقول “كما وصلني”..!

لا، لا، هذه “كما وصلني” لا تعفيك من المسؤولية، ولا يعفيك من المسؤولية أن تنقل كل خبر (كفا بالمرء حمقا…) في بعض الروايات (كذبا أن يتكلم بكل ما عرف).

تعرف، لكن “ليس كل ما يعرف يقال” هناك من يستحق أن تخبره بهذه المعلومة وهناك من لا يستحق أن تخبره بهذه المعلومة، لأنه لا يحسن التصرف معها ولا التعامل معها (لكل مقام مقال) وإلّا قد يصدق علينا ما قاله النبي صلى الله عليه وآله، أننا نحدّث، لكن نكذب، نكذب يعني نخطئ، لا نقوم باللازم فيما يتعلق بالكلام، سواء كان كلاما لفظا أو كلاما مكتوبا، لذلك الكلمة امانه، الكلمة مسؤولية، يحتاج الانسان أن يدرس كثير من المسائل، الآن بعضهم يقول ” أنا أرسلت هذه الرسالة وبالغلط ضغطت على الزر”..!

لا، لا تغلط ،لا تغلط لأن ورائها تبعات، تقول “أنا ضغطت على الزر بالغلط” ، “كلمت فلان وغلطت” هذه ورائها الكثير من التبعات، في الدنيا وقد يكون ورائها الكثير من التبعات في الآخرة.

فإذن (وحدّثهم فلم يكذبهم…) ومن هنا ندرك لماذا جاءت التأكيدات على أهمية الصمت (الصمت حكمة وقليل فاعله) الله عز وجل، لا يحاسبك على الصمت، يحاسبك على الكلام، أما أنك صمتَ، إلّا في مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفي الجهاد بالكلمة، وهذا له مقام آخر، لكن في الوضع الطبيعي، لا، ينبغي للإنسان أن يكون دقيقا في اختيار الكلمات.

ثالثا – (ووعدهم فلم يخلفهم..).

إذا تقدمت بوعد للناس، كن صادقا في هذا الوعد، أولا، تكون نيتك أنْ تفي بهذه الوعد، فإذا كنت عارفا من نفسك أنك عاجز عن أن تفي بالوعد، لا تعد، قل إن شاء الله، لكن قل إن شاء الله كما أراد الله، مو [ليس] كما اعتاد عليها كثير من الناس، لأن بعضهم يقول لك ” بس [عندما] يقول لك إن شاء الله” إعرف أنه لن يفي لك بشيء، لأن هذه “إن شاء الله” حطها بس للتمهيد حتى لا يفي…!

لا، لا، المؤمن لا يحتاج إلى شيء من هذا، وإنما إيمانه يفرض عليه أن لا يعد، فإذا وعد لم يُخلف، وإلّا دخل في مرتبة من مراتب النفاق.

إذا أدّى الانسان هذه الالتزامات والواجبات، انتقل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلى الحقوق التي على الناس أن يحسنوا التعامل مع هذه الفئة من الناس.

 الانسان إذا كملت شخصيه وراعى حقوق الناس يجب على المجتمع أن يراعي حقه، لأنهم لم يعرفوا منه إلّا الحسن، لم يعرفوا منه إلّا الصلاح، هذا الصالح لا يُخذل، لا ينبغي أن يُخذل، ولذلك، لماذا أمرنا نحن أن نصدق المؤمن؟ أمرنا أن نصدق المؤمن لأننا لو لم نصدقه، يعني كان يفترض أن يكون مؤمنا لا يكذب ولا يتعمد الخطأ، إذا رددنا كلامه، أخللنا بـ«الأمن الاجتماعي» لا يصبح أحد يثق في أحد.

تصوروا مجتمعا لا يثق فيه أحد بأحد، تشك في كل كلمة تسمعها، يموت هذا المجتمع، يتدمر، يصبح مجرد طابوق مرمى في ساحة، لا قيمة له، ليس هذا بنيانا يريده الله عز وجل.

ما هي حقوقه؟ قال (فهو ممن كملت مروءته)

“المروءة” مصطلح شائع عند العرب وأقرّه الإسلام لكن مع شيء من التهذيب، المروءة تعني الرجولة، تعني الشهامة، تعني النجابة، تعني كمال الشخصية، تعني حسن الأخلاق، وهي مراتب، ليست مرتبة واحدة، لذلك، النبي يقول من يفعل هذا (فقد كملت مروءته) يعني صار في المرتبة الكاملة من المروءة، لعلنا نتحدث إن شاء الله في المروءة وكيف عرّفها “أهل البيت” عليهم أفضل الصلاة والسلام.

فإذن، هذا الانسان الذي يحب نفسه ويحب الآخرين أن يحبوه، فليسع إلى أن يكمّل مروءته، تريد أن تعرف من نفسك أنك ممن كملت مروءتك هذا هو الميزان، أولا، ثانيا، ثالثا، معاملتك، حديثك، وعدك.

إذا التزمت بما قاله رسول الله صلى الله عليه وآله، فأنت انسان كامل المروءة، رجلا كنتَ أو امرأة، الآن، على الناس أن يراعوا حق هذا الانسان الذي كملت مروءتُه، وهذه (كملت مروءته) أشبه ما تكون بالوسط، بالرابط بين الحقوق والواجبات.

(من كملت مروءته) ماذا على الناس أن يفعلوه؟

 تجي الآن الحقوق الثلاثة، حتى يصير المجموعة أربعة:

أولا – (وظهرت عدالته)

العدالة تعني التوازن في الشخصية، بحيث الانسان يستجيب الى الله فلا يخلف عهده ووعده مع الله عز وجل، والظهور هنا واحد من معنيين، أما إننا ما كنا نعرف العدالة، لأن العدالة أمر قلبي، كيف نتعرف على أن فلانا من الناس عادل؟ هل هو الميزان، إذا رأيته يعاملك فلا يظلمك، يحدّثك فلا يكذبك، يعدك فلا يخلفك، هذا ممن (كملت مروءته) هذه معاملة العدول، أين حقوق العدول؟ هذا من أهل هذه العدالة، في مقام الشهادة، في مقام التقليد، في مقام القضاء، في مقام إمامة الجماعة، وكل ما يشترط فيه العدالة، هذا هو الميزان، هذا معنى.

 المعنى الثاني “غلبت عدالته” “الظهور” بمعنى الغلبة، بمعنى الخروج من حالة المغلوبية إلى حالة الغالبية، هذا أمر مطلوب، يعني كان في السابق غير متزن، صار اتزانه وإيمانه هو الغالب عليه، “ظهرت عدالته” هذا ممتاز، وانت إذا ظهرت العدالة عند أحد من الناس تطمئن إليه.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في “مكة المكرمة” لما بعثه الله عزوجل، وصدع بما أمر الله عز وجل، لم يصدقه أولئك الكفار، لكن ما كانوا يشكون أنه عادل وثقة وصادق، كانوا يستودعون الأمانات عنده، يودعونا أماناتهم عنده، لأنهم يعرفون عدالته، كان يلقب بينهم صلى الله عليه وآله وسلم، بـ”الصادق الأمين” لذلك، هذا أحد مقام الازدواجية، كيف تصدقونه في أمور الدنيا ولا تصدقونه في أمور الدين؟ هذا أخطر، هذا واحد.

الثاني (ووجبت أخوّته).

هناك حقوق للأخوان فيما بينهم، سجلت في القرآن الكريم والسنة المطهرة {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} هل الأخوان لهم حقوق؟ نعم، حقوق كثيرة، بعض الروايات تذكر سبع (٧) بعض الروايات تذكر (٧٠) حق للأخ المؤمن، حتى أن أحدهم سأل “الإمام الصادق” عن حقوق الأخوان، فقال له (أخشى عليك…) أخاف تسمع وتعلم ولا تعمل، ولا ينبغي للإنسان إذا علم ألا يعمل، من أجل أن يعظّم حق الأخوان فيما بينهم.

فإذا كان أخا، أخوك يجب أن تتعامل معه كما تتعامل مع نفسك، ما يضره يضرك وما ينفعه ينفعك، وبالتالي، ما يجوز أن تسمح أن يلحق به ضرر ولا أن يُسلب منه نفع، تنصره حتى ينصرك، هذا هو المطلوب.

الرابع والأخير – (وحرمت غيبته).

الغيبة معروفة، أن تذكره بسوء وهو لا يكون حاضرا، حتى لو كان في المجلس وكان بعيدا عنك، مشغولا بالحديث مع فلان من الناس، وأنت من هذا الجانب تتكلم في حق فلان المؤمن، هذه غيبة، فضلا عما كان خارجا، لأن الانسان في حال غيبته مكشوف الظهر، وأنت لا تغدر به، لا ينبغي لك.

إذا كان عندك ملاحظة عليه، بكل لطف، بكل أدب، تتعامل كما أردت أن يتعامل معك، تنصحه سرا، لا تفضحه جهرا وتشهيرا بين الناس، هذا لو كنت مؤمنا.

بعض الناس يقول “والله أنا أحب فلانا” كيف ترجمتَ محبتك لفلان؟ بالواتساب، بالقروبات، بالانستغرام وباليوتيوب ويشتم في فلان ويقول “والله أنا أحبه، لكن عندي ملاحظه عليه”..!

ملاحظة عليه، تطرق باب بيته وتسجل هذه الملاحظة إليه، أما أن تهتك ستره بين الناس وتفضحه، ثم تقول أنت تحبه، لا، المحبة لا تكون بهذه الطريقة.

بهذا الاسلوب، النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يبيّن لنا كيف نحافظ على أمننا الاجتماعي، لأننا إذا وفرنا لأنفسنا أمنا اجتماعيا، جنينا الثمرات، حتى لو كان العدد قليلا والامكانات ضعيفة، لكن الله عز وجل، يبارك في هذه الامكانات وهذا العدد القليل {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} بإذن الله، إذن الله مشروط، بإذن الله ما يقول؟ {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} لكن لو أن الأمه لم تعمل بهذه التعليمات؟ يكونون غثاء كغثاء السيل، يتخطفهم الناس من حولهم، هذا ما نعوذ بالله عز وجل، أن يصل إليه أحوال مجتمعنا.

لذلك، نحتاج إلى أن نؤمن بالله وأن نتقى الله عز وجل، وأن نقول القول السديد، وهذا يحتاج إلى علم ومعرفة وتجربة وتمرين، تمرين هذا الذي يسمّونه أهل الاخلاق وعلم التربية “الرياضة الروحية” مثل ما يحرص الناس، يذهبون للصالات والنوادي الرياضية، مو[ليس] مجانا طبعا، يدفعون الفلوس، يدفعون نقودا، من أجل أن ينمّي عضلته، أنت أحوج ما تكون إلى تنمّي عقلك وقلبك، لأن ما ستفد به على الله عز وجل، ليس عضلتك القوية وإنما إيمانك والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول لـ”أبي ذر” (التقوى ها هنا التقوى ها هنا التقوى ها هنا).

 جعلنا الله وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى