حديث الجمعة

حديث الجمعة : عاشوراء الصلاح والإصلاح (٣/٣) السيد النمر الموسوي

نصّ الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «عاشوراء الصلاح والإصلاح (٣/٣)» يوم الجمعة ١٣ محرم ١٤٤٤ هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمّدٍ وعلى آله الطيبين الطاهرين ربّي اشرحْ لي صدري ويسّرْ لي أمري واحللْ عقدةً من لساني يفقه قولي، اللهم اجعل اعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

 

كنا قد تحدثنا في أسبوعين ماضيين عن “عاشوراء الصلاح والإصلاح” وذلك أن هذه النهضة المباركة إلى جانب كونها أمرًا يجب علينا أن نتعبد بقبوله، فإن الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) هو واحدٌ من أهل البيت الذين طهرهم الله تطهيرًا وأذهب عنهم الرجس. ومن ثمّ فإنّ من شأن المؤمن أن يسلّم بما يقوم به رسول الله، وعلي، وفاطمة، والحسن، والحسين، دون نقاش: {إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلْإِسْلَٰمُ} [ آل عمران – 19]. الذي ثبت عصمته وطهارته وولايته لله -عز وجل-  ولرسوله بهذه المثابة، يُتعبد بأقواله وأفعاله وتقريراته.

 

ولذلك تجدون أن الفقهاء عندنا كيف يستقون الحكم الشرعي في جميع الأبعاد؟ يستقونها من هؤلاء الخمسة، وسائر الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) حيث أننا نتعبد بكل ما يصدر عنهم، فقط يبقى بيننا وبينهم كيف نُثبت هذا الفعل أو هذا القول الذي صدر منه. نحن نعلم بالتواتر والأمة كلها تعلم أن الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) نهض هذه النهضة المباركة وانتهت به إلى أن يقتل في هذه المعركة. وليس هذا فعلاً عاديًا فلا بدّ أن الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) كان له المبرر الشرعيّ في هذه النهضة حتّى بهذه المثابة؛ لأنه لا يجوز للمؤمن أن يُعرض نفسه للخطر والتهلكة بأقلّ من هذا، فكيف يعرض نفسه إلى مستوى القتل؟ فكيف إذا كان هذا الدم المسفوك والمسفوح هو دم الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام)!؟ ليست المسألة عادية لذلك هذا الأمر محسوم.

يبقى علينا أن نقف عند حدود أو في إطار ما جاءت هذه النهضة المباركة من أجله. وهو ما عنونه الإمام الحسين عليه أفضل الصلاة والسلام بالإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولا يُتصور أن يكون الإنسان مصلحًا إلا أن يكون صالحًا؛ لأن الله لا يصلح عمل المفسدين. المفسد في نفسه لو يتوقع منه أن يصلح غيره، فليصلح أولاَ نفسه ثم يسعى إلى إصلاح الآخرين؛ لأنه حتّى لو حسنت نيته هذا الإنسان الفاسد في فكره، وفي سلوكه، وفي جوانحه، حتى لو حسنت منه النية لا يمكن أن يوفق إلى أن يكون مصلحًا للآخرين.

لذلك فإن الله -عز وجل-  حكى لنا سير الأنبياء بتفاصيل كثيرة، وبيّن لنا أن هؤلاء هم الذين يقتدى بهم {فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] ويخاطبنا بنحو خاص {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] النبي ماذا فعل مع الإمام الحسين؟ وماذا قال؟ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما تواتر بين الأمة نقله وروايته “حسين مني وأنا من حسين” وهذه تزكية مطلقة للإمام الحسين. وكذلك يقول عن الإمام الحسين عليه (أفضل الصلاة والسلام): “أحب الله من أحب حسينا”. فإذاً هو قد رسم لنا إطارًا في التعامل مع الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام)، ومن أهمّ ما صدر عن الإمام الحسين هي هذه النهضة المباركة، لذلك فإننا بين يدي أعمال تشريعيّ ليس عملاً تاريخيًا حتّى يُقال تلك أمة خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت لا لسنا أمام هذا حدث من هذا النوع. هذا الحدث كما أن الله -عز وجل-  حكى لنا ماذا حصل بين ابني آدم حيث قتل منهم الظالم أخوه المظلوم، ليكون ذلك عبرة لنا وكذلك ما حكى من باقي قصص الأنبياء والصالحين والمجرمين في القرآن الكريم ليكون ذلك لنا عبرة حتى نقتدي بالصالحين ونتجنب أفعال غير الصالحين.

 

الإنسان لكي يكون صالحاً حتى يتهيأ له أن يكون مصلحاً عليه أن يعمل على مساريْن أساسييْن.

 

المسار الأول: توفير الفرصة أو البيئة المناسبة للصلاح

يعني أن يقتلع الموانع من الصلاح؛ لأنه ليس النية وحدها ليست كافية، النية للخير وفعل الخير لا تكفي. مثل ما أن الإنسان لو أراد أن يشيد له بنيانًا لا يكفي أن يقصد تشييد البنيان وينوي، وإنما يشتري الأرض، ثم إذا أراد أن يشيد البناء فوق هذه الأرض، يزيل كل ما يمنع من تشييد البناء على هذه الأرض، الرطوبة، الحفر، كل الموانع التي تحول بين هذا الإنسان وبين تشييد الأرض لا بد أن يزيلها في رفع الموانع.

 

المسار الثاني توفير الأسباب والمقتضيات

أيضاً لابدّ أن يتوفّر على المبالغ اللازمة والاتفاق مع المقاول هذا القانون يجري في كل شيء، في تعلمنا في المدرسة يجري، في تهيئة الغذاء والدواء يجري، في جميع مناحي الحياة. الصلاح ينطبق عليه هذا القانون، نية الصلاح أن يكون الإنسان صالحًا مهما  اشتدت النية لا يكفي. طبعا لاحظوا لعل أحدًا يقول ماذا نفعل بقول النبي (صلى الله عليه وآله  وسلم): “إنما الأعمال بالنيات”؟ النبي ليس في صدد أن يقول إن النية تكفي، وإنما يريد أن يقول أن الأعمال إذا أردنا أن نفرق بين العمل المقبول عند الله والعمل غير المقبول نية العمل النية والباعث الذي دفع بهذا الإنسان إلى العمل هو الذي يحدد مدى مقبولية هذا العمل. فالإنسان المؤمن لأن نيته نية صالحة، الله -عز وجل-  يقبل عمله. الإنسان غير الصالح؛ لأن نيته ليست نية حسنة حتى لو صلح العمل، لكن العامل ليس صالح. وذكرنا فيما مضى أن هناك حسن للفعل وهناك حسن للفاعل، والمطلوب كلا الأمرين. لذلك نقول الصلاح هذا فعل، هذا حسن الفاعل. والإصلاح حسن الفعل فيما يتعلق بالآخرين. المطلوب فيما يتعلق برفع الموانع أمور كثيرة نُجملها فيما يلي.

 

أولاً: الصلاح الاعتقادي

 

وثانيًا: الإصلاح الأخلاقي

 

وثالثًا: الصلاح السلوكي

 

هذه الحقول الثلاثة ليس لنا أن نعمل على إصلاح واحد منها دون بقية الأشياء، مثل هؤلاء الذين يعمدون إلى رياضة كمال الأجسام هو لا ينمي عضلة الذراع فقط والساعد، وإنما ينمي عضلات بدنة كاملة وإلا سيخرج مشوه. صدره قوي، الجزء العلوي من بدنه قوي، لكنه من أسفل بدنه ظامر وغير متريّض مثل هذا الإنسان لا يقال كم ولا جسمه، الإيمان كذلك.

لذلك نجد مثلاً رواية مطولة يرويها الشيخ الكليني -رحمه الله-  تستغرق صفحات عديدة أن الإيمان مبثوث على الجوارح. الله -عز وجل- وزع إيمانك يعني إيمانك لكي يتحقق لا بدّ أن تراعي إيمانك فيما تنظر إليه، وفيما تسمعه، وفيما تلمسه، وفيما تخطو إليه، في كل سكناتك وحركاتك يجب أن تكون مؤمناً. كذلك هنا فالصلاح مطلوبٌ أن تكون منظومتك الاعتقادية منظومة صالحة، وهذا أهم الأولوية المطلقة لهذا.

{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] الإسلام يعني أن يعتقد الإنسان أولا بأن الله -عز وجل- هو الإله الذي لا شريك له. ثم يعتقد ثانياً بأن محمداً (صلى الله عليه وآله  وسلم) هو النبي الذي لا نبي بعده. ثم تتوالى مفردات الاعتقاد فإذا كملت هذه المنظومة الاعتقادية صُنف هذا الإنسان ضمن المؤمنين، وأي خلل يصيب هذا الحقل سينعكس ذلك على الحقلين الآخرين.

ما هما الحقلان الآخران؟ الحقل الأخلاقي، الإسلام لا يريد منا أن نكون صالحين اعتقاديًّا فقط، هذا أمر مهم وله حظٌ أوفر فيما يعنى به المشرع الإسلامي، لكن هناك جانب أخلاقي: مشاعرك، عواطفك، التي تنعكس على سلوكك، الذي هو الحقل الثالث يعنى هل أنت مسموح لك أن تحب من تشاء وتبغض من تشاء!؟، لا! النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما يقول: “أحب الله من أحب حسينا” هو يحدد المسار العاطفي والشعوري لك أيها المؤمن. يعني أن الحسين في ضفة، ومن خاصم الإمام الحسين -فضلا عمن قتله، عاداه حتى قتله- في ضفة أخرى. لا يمكن أن أقول أنا أحب الحسين وأُحب أعداء الحسين. أصلي على هذا، ثم أصلي على ذاك، ارتضى على هذا، واترضى على ذاك، لأن النتيجة ستكون سيّدنا قتل سيّدنا. هذا التشويش في هذه المنظومة العاطفية والشعورية تجعل من الإنسان ينتهي به المسار إلى أن لا يكون موحّدًا. التوحيد ماذا يعني؟ يعني أن ينقطع الموحد إلى الله -عز وجل-  فلا يتلقى حكمًا من غيره. حتى الأحكام التي نتلقاها من الرسول وممن بعد الرسول و هم الأئمة (عليهم أفضل الصلاة والسلام)، والفقهاء الذين يفسرون كلام الله وكلام الرسول وكلام الأئمة، ولا ينتجون أحكاماً من عنديّاتهم. نحن إنما نتولّى هؤلاء في ظل تولينا لله، لذلك القرآن ماذا يقول؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء: 59] لم يقل أطيعوا الله والرسول. لأن طاعة الرسول منبثقة من أمر الله -عز وجل-  بطاعته. الرسول ليس له طاعة مستقلة فضلاً عن غير الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فإذاً هذه منظومة مهمة.

 

الصلاح الاعتقادي يعني يبين الله -عز وجل-  لنا وجوه الخطأ والصواب. في هذا الكون هل من خالق غير الله؟ هذا الترتيب وتبيين للمنظومة الاعتقادية التي ينبثق منها سائر المعارف الاعتقادية. والاعتقاد نحن لا نتلقاه من الآباء والأمهات، من نصادقهم، ومن نعاديهم، وإنما نتلقاه من الله اللطيف الخبير الذي بين لنا طبعا زودنا هو بوسائل التعرف عقلك، الذي يجب أن يحافظ الإنسان عليه سليماً نقيا، وبقدر ما يحافظ عليه يتيسر له أن يقرأ الأمور كما ينبغي. يقول الله -عز وجل-: {يُؤْتِى ٱلْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ ٱلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِىَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. الحكمة يعني التصرف الحسن، والفهم الصحيح، هذه فيها بعد غيبي، فيها بعد وهبي من الله -سبحانه وتعالى-.  لذلك لا يوفق إليها كل أحد.

فإذاً هذه حقول ثلاثة لاحظوا ماذا يقول الله -عز وجل-،  يقول في سورة النساء: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم} [النساء: 69]. الواحد يقول هذا فرض، نعم الله -سبحانه وتعالى-  يسوق لنا فروضًا قد يبتلى بها الإنسان مثلا ما فُرض على الإمام الحسين (عليه افضل الصلاة والسلام) أن يذهب إلى كربلاء. ماذا يقول حينما استشكل عليه بعضهم لم تصطحب عيالك؟ قال: “شاء الله أن يراني قتيلا و يراهن سبايا”. مر صعب لكن الله -عز وجل-  كلف الامام الحسين ماذا يجب على الإمام الحسين أن يفعل؟ أن يستجيب لله -عز وجل- “يا سيوف خذيني” كما يقول الشاعر.

 

{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ ٱقْتُلُوٓاْ أَنفُسَكُمْ أَوِ ٱخْرُجُواْ مِن دِيَٰرِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِۦ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا * ذَٰلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ ۚ وَكَفَىٰ بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 66 – 70].

 

في التكليف الشرعي قد يكون تكليفاً صعباً، لكن الإنسان إذا كانت منظومته الاعتقادية سليمة، ومنظومته الأخلاقية -ليس في حسن أخلاقه مع الناس- هذا فرع لحسن أخلاقه مع الله. الإنسان المحب للناس يفعل فعلا حسناً، لكن الذي يحب الله يفعل فعلا أحسن، والمطلوب مثل ما أننا نحب الناس بطريقة حسنة أن نحب الله قبل ذلك ومعه وبعده بطريقة أفضل، ولو تزاحم هذان الحبّان لقدمنا حب الله على حب غيره. الإنسان لماذا لا يحب الموت؟ لماذا لا يحب الأذى؟ لماذا لا يحب الفقر؟ لأنه يحب نفسه. الله- عز وجل- يقول المؤمنون أشدّ حبا لله إشارة إلى قوله تعالى: {وَٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}. [البقرة : 165] شدّة محبة المؤمن لله، وهذا بعد عاطفي بعد أخلاقي، ينبع من حسن منظومته الاعتقادية إذا صُحح الاعتقاد ومن بعده صُحح الحقل الأخلاقي، صحَ من الإنسان فعله السلوكي. لذلك أنت الآن تستغرب كيف يتصور الإنسان أن مسلماً -يصنف ضمن المسلمين- يقدم على جريمة بشعة بحجم قتل الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام)؛ لأن الخلل سرى في كل هذه الحقول الثلاثة. اعتقادهم كان اعتقادا منحرفا، أخلاقياتهم كانت منحرفة، سلوكياتهم هي النتيجة الطبيعية للانحراف في الحقل الأول والحقل الثاني.

كذلك يقول الله عز وجل، يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍۢ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُۥٓ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ۗ وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَٰلًا مُّبِينًا} [الأحزاب – 36]. يعني انحراف خطير، ضياع كبير وشديد. هل للإنسان أن يختار مع ما يختاره الله؟ جواب المؤمن بشكل سريع وعاجل وراسخ وصلب هو كلا! {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم – 4]. ثورة الإمام الحسين ونهضته المباركة هي درسٌ لأحباب الإمام الحسين على التجذر وتجذير الإيمان في هذا الحقل، أنّ لله الأمر أولاً، وآخراً وما بين هذا، وما بين هذا. طبعاً، هذا يحتاج إلى تصحيح للمنظومة الاعتقادية، تقويم للمنظومة الأخلاقية، وتقويم أيضاً للمنظومة السلوكية.

هذه الآفة، آفة التراخي والضعف والبنى في هذه الحقول الثلاثة، لا يبتلى بها المسلمون فقط سبقهم إلى ذلك غيرهم. يقول عز وجل عن أولئك اليهود والنصارى {لَيْسُوا سَوَاءً ۗ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [آل عمران – 113] يعني ليسوا متساوين {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ ءَانَآءَ ٱلَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنكَرِ وَيُسَٰرِعُونَ فِى ٱلْخَيْرَٰتِ وَأُوْلَٰٓئِكَ مِنَ ٱلصَّٰلِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 – 116] القانون هو القانون، ولذلك فإن الذين كانوا صالحين من اليهود والنصارى لما خاطبهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أمره الله عز وجل به. {قُلْ هَٰذِهِۦ سَبِيلِىٓ أَدْعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِ} [يوسف – 108] ما الذي فعله الصالحون من أهل الكتاب الذين جاءت الآية لتصفهم؟ سارعوا إلى الاستجابة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله  وسلم) لأنهم علموا أن ما يدعوهم إليه الرسول هو ما يؤدي بهم إلى الحياة الحقيقية، الحياة الطيبة التي ينشدها كل إنسان عاقل، فإذاً هذا جانب. هناك جانب آخر، شرطٌ آخر من الشروط، إلى جانب طبعاً رفع الموانع هذا الجانب يُرفع فيه الموانع. أمر آخر، هو الثبات فإذاً بعد رفع الموانع من الموانع التي يمكن أن يشار إليها بالتسمية والتصنيف، حبُ الدنيا وما يتشعب منه، هذه موانع موانع سنشير إليها بعد قليل.

الشرط الثاني بعد طاعة الله -عز وجل-  وطاعة الرسول الثبات عليه. من توفيقات الله -عز وجل-  للإنسان أن يطيع الله لكن يجب أن نعلم -أيها المؤمنون والمؤمنات- أن طاعة الله ليست طاعة موسمية، لا يجوز لنا أن نكون مؤمنين في موسم عاشوراء، ثم بعد موسم عاشوراء ترجع حليمة إلى عادتها القديمة. ولا يجوز لنا أن نكون كذلك في شهر رمضان وبعد شهر رمضان نرجع إلى ما كنا عليه. وإنما يجب أن نكون مطيعين وثابتين على الطاعة في أول العام، وسط العام، وآخر العام. لذلك الله -سبحانه وتعالى- كان بالإمكان أن يكلفنا أن نصلي في أول النهار، في أول اليوم نصلي ثم آخر النهار لك أن تفعل ما تشاء. إن أحد الحكم من توزيع الصلوات والأذكار والعبادات على هذه الساعات الممتدة في اليوم لكي يبقى الإنسان عبداً لله مستحضراً لعبوديته لله ممارسًا عبادة الله -عز وجل-  بالنحو الخاص، و بالنحو العام. بالنحو العام يعني حتى فيما تجارتك، حتى في وظيفتك، في كل سكناتك، وحركاتك، يجب أن تكون عبدا لله -عز وجل-.

 

لاحظوا الله -سبحانه وتعالى-  يسوق لنا نموذجًا حصل في معركة أحد لمّا تخلف هؤلاء الذين تخلفوا ولم يبق مع النبي إلا أمير المؤمنين وثلة منهم نسيبا. إحدى الصحابيات وإلا الأغلب فروا، فروا يعني أنهم أرادوا أن ينجو بأنفسهم ولو تعرض رسول الله إلى الخطر. هذا امتحان عسير أخفقوا فيه لذلك كان بعضهم يقولون، نعم فررنا لكن الله عفا. حتى لو أن  الله -عز وجل- عفا لكن الخلل بان! وإذا بان الخلل لا ينبغي أن يسوى بين من ثبت واستقام! وبين من فر وإن تاب الله -عز وجل-  عليه، يقول سبحانه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ ۚ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَىٰٓ أَعْقَٰبِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا ۗ وَسَيَجْزِى ٱللَّهُ ٱلشَّٰكِرِينَ} [ آل عمران: 144 ] فالمطلوب طاعة الله، والثبات على طاعة الله وطاعة رسوله في حياة النبي (صلى الله عليه وآله) وبعد حياة النبي. وهكذا بالنسبة لنا في شهر في موسم عاشوراء، و موسم رمضان، وموسم الحج، وفي كل موسم أن نطيع الله ونبقى كذلك. هذا ما يجب أن نتعلمه من نهضة الإمام الحسين إلى الممات {وَٱعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ} [الحجر: 99 ]  يعني حتى يأتيك الموت.

لا حظوا ماذا ورد في الرواية عن صفوان الجمال؟ “قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام)  يقول كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يخرج في ملأ من الناس من أصحابه” كان يخرج يعني ليست مرة واحدة كان يتردد هذا الفعل تكرر من النبي صلى الله عليه وآله، يخرج إلى ماذا؟ متى؟

“كل عشية خميس إلى بقيع المدنيين” البقيع “فيقول ثلاثا السلام عليكم يا أهل الديار، وثلاثاً رحمكم الله، ثم يلتفت إلى أصحابه ويقول: هؤلاء -الذين رقدوا في المقابر- خير منكم! فيقولون يا رسول الله ولمَ؟! آمنوا وآمنا، وجاهدوا وجاهدنا! فيقول: إن هؤلاء آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم” يعني لم يمزجوا ويخلطوا إيمانهم يعني ماتوا على الإيمان، رسول الله يشهد لهم أنهم ماتوا على الإيمان.

“وأنا على ذلك شهيد وأنتم -يخاطب الذين كانوا معه- تبقون بعدي ولا أدري ما تحدثون بعدي”. بعد رسول الله لأوضاع قد تتغير، قد لا تبقون على ما أنتم عليه من الإيمان. لذلك فإنه لا يكفي للإنسان أن يكون مؤمنا حتى لو عاصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا إذا بقي على ذلك وحسُنت عاقبته وختم الله -عز وجل-  له بخير.

البخاري يروي عن ابن عباس، “قال خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) -وآله مني- فقال: يا أيها الناس، إنكم” -يخاطب الصحابة ليس يا أيها الناس يعني في المستقبل الذين كانوا حاضرين عنده- “إنكم محشورون إلى الله حفاة عراة غرلا، ثم قال، تلا قول الله: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍۢ نُّعِيدُهُۥ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَآ ۚ إِنَّا كُنَّا فَٰعِلِينَ} [الأنبياء: 104] إلى آخر الآية، ثم قال: ألا وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم، ألا وأنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال” -ذات الشمال يعني ليس في العاقبة الحسنة إلى النار-

“فأقول يا ربي أصيحابي، -مو أصحابي أصيحابي يعني من الدائرة الخاصة الدائرة القريبة – فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح -أي عيسى عليه السلام-: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . فيقال: إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم”. يعني من الذين كانوا معه.

 

فإذاً، طاعة رسول الله أمر مهم، قبل ذلك الإيمان به مهم، لكن الأهم من هذا وهذا المحافظة على الإيمان، المحافظة على الطاعة. ونهضة الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) تبين لنا بشكل واضح أن المحافظة على الإيمان والطاعة لازمة ومهمة ومفيدة ولو أدى بالإنسان إلى أن يستشهد في هذا السبيل.

 

أيضاً، في صحيح مسلم عن أنس ابن مالك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال “ليردن علي الحوض رجال ممن صاحبني، حتى إذا رأيتهم ورفعوا إلي اختلجوا دوني، فلأقولن: أي ‌رب، ‌أصيحابي أصيحابي! فليقالن لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك” فالتزكية بالمطلق ليس هذا موافقًا عما صح عن رسول الله عند الفريقين، وبالتالي لا بدّ من أن يدرس حال كل واحد منهم بحدى، هذا في جانب الطاعة.

 

وأشير بشكل سريع حتى أختم إلى الموانع، من أهم الموانع ونستطيع أن نقول أنه أم الموانع، حب الدنيا الذي ورد في الأثر أنه رأس كل خطيئة، كل الأخطاء والخطايا تتشعب من حب الدنيا. حب الدنيا سواء تمثل ذلك في حب المال، في حب الجاه، حب السمعة. ينبغي للإنسان أن يقتلع حب الدنيا، يعني قلعاً تاماً جذرياً. وليس المقصود من ذلك ألا تبني بيتاً، ولا أن تملك مالاً، ولا أن تتجمل في حياتك. فقد ورد إلى الأمام الصادق (عليه أفضل الصلاة والسلام) رجلٌ يعرفه بالصلاح، فقال: “هلكنا يا ابن رسول الله قال لمَ؟ قال: نحب الدنيا، نحبّ الدرهم والدينار، قال: تفعل به ماذا؟” الإمام يعرفه لكن هذا لشدة إيمانه وقلقه على إيمانه، خشي من أن يكون هذا مصداقا من مصاديق حب الدنيا. “قال تفعل بها ماذا؟ قال: أصلُ بها رحمي وأتصدق وأفعل بها الأفعال الطيبة. قال: ليس هذا من حب الدنيا، هذا من حب الآخرة”.

 

فإذاً الله -سبحانه وتعالى-  خلقنا في هذه الحياة من أجل أن نستمتع بها، لكن في ظل ما أباحه لنا وفي ظل ما وجهنا إليه. وليس في ظل ما يبعثنا إليه الشيطان والشياطين حتى يكون ملك الري، وتمنى ملك الري داعياً إلى قتل الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام). لذلك هو يقول (صلوات الله وسلامه عليه) يبين كيف أن حب الدنيا والتولي لأعداء الله الناشئ من حب الدنيا، ما الذي دعا هؤلاء؟ يقول: “… إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق‏ [لغو] على‏ ألسنتهم يحوطونه ما درت معايشهم فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون‏” هناك كثير من الناس، كما يأتي كما جاء في القرآن الكريم يعبد الله على حرف، إيمان بسيط، مهزوز، يعني هو على أتم الاستعداد أن يضحي بالحكم الشرعي، ولا يضحي بشيء تزاحم مع الحكم الشرعي. مثل هؤلاء الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) أراد أن يقول إن يقول لهم أن رضا الله -سبحانه وتعالى-  يستحق أن يضحى به ليس بنفسي ونفسك، وإنما بنفس الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام).

 

وعن أبي عبد الله الصادق (صلوات الله وسلامه عليه)‏ في قول الله عز وجل {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ ‌يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] قال (عليه السلام) يشرح “بما جاء به محمد ص -يعني الإيمان- من الولاية -يعني ولاية الله عز وجل ورسوله والولاية لألويائه الذين سماهم الله عز وجل- ولم يخلطوها بولاية فلان وفلان فهو الملبس بالظلم”. إيمانك حتى يكون إيماناً ينفعك في أوقات الشدة. لاحظوا المحتضر، لماذا يلقن المحتضر؟ لماذا يقرأ عنده القرآن؟ لأنه في مثل هذه الشدة يذهل عن كل شيء، يزول عنه كل المعلومات. لذلك إيمانه إذا لم يكن راسخ في مدة حياته مثل هذه الهزة عند الاحتضار، لا يستطيع أن ينطق بشيء. فإذا ماتَ وتوفاه الله -عز وجل- وجاءه الملكان وسئلاه من ربك؟! حالة الذهول تمتد معه إلى ذلك الوقت، لأن إيمانه ليس متجذرا فيه تغيب عنه هذه المعلومات ويفقد إيمانه. هذا أمر خطير لذلك يحتاج الإنسان أن يتذكره بشكل دائم.

 

الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) بماذا شهد لأصحابه وأنصاره وهم أركان النهضة بعده؟ نحن نقول: (السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين)؛ لأن النهضة إنما صار لها أركان بهؤلاء.

يقول (صلوات الله وسلامه عليه): “لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرًا من‏ أصحابي‏ ولا أهل بيت أبر ولا أوصل من أهل بيتي‏” شهادة عميقة لكن هذه الشهادة لم تصدر من الإمام الحسين إلا لمن هم أهل لها، كيف ثبت أنهم أهل لها؟ الإنجاز الذي تحقق على أيديهم يكشف أن هذه الشهادة، ونحن لا نحتاج إلى دليل بعد صدورها من الإمام (صلوات الله وسلامه عليه)، لكن الواقع الذي أنجزوه يكفي لإثبات هذا المعنى. لذلك نسلم عليهم على أنهم أولياء الله “السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه، السلام عليكم يا أحبة الله وأصفيائه”. هذه شهادة وهذا تقييم وشهادة لمن ينبغي لنا أن نتأسى بهم، سواءٌ عرفنا أسماءهم أو لم نعرف، كثيرا منهم حتى أسماؤهم لا يعرفون. التاريخ قصّر في رصد حياة هؤلاء! لكن ليثبت لي ولك أن الشهرة الاجتماعية ليست هي الميزان. كثيرٌ من الناس مدونة أسمائهم سجلهم التاريخي حافل، لكنهم عند الله -عز وجل-  نكرات. ابن عباس يقول عن أحدهم يقول يفاخر ذاك الإنسان يفاخر بأن أباه صاحب رسول الله. يقول وأبوه ما يسوى نعل خلق. ما قيمة أن يصاحب الإنسان الرسول إذا لم تنتهِ حياته ويختم حياته بما أراد الله -عز وجل-  له أن يختمها عليه.

 

نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا ومنكم وأن يجعلنا وإياكم من أنصار مولانا الإمام الحسين (عليه أفضل الصلاة والسلام) والسائرين على نهجه.

 

اللهم صلِّ على محمد وآل محمد

اللهم كن لوليك الحجة ابن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدًا وناصرًا ودليلاً وعينا حتى تسكنه أرضك طوعًا وتمتعه فيها طويلا.

اللّهم انصرْ الاسلام والمسلمين واخذلْ الكفار والمنافقين، اللّهم اشفِ مرضانا وارحم موتانا وأغنِ فقراءنا وأصلحْ ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجْنا من الدنيا حتى ترضى عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى