حديث الجمعة

حديث الجمعة : «التشريعُ شأنٌ إلهيٌ (٤)» يوم الجمعة ٣ ذو القعدة ١٤٤٣هجري

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «التشريعُ شأنٌ إلهيٌ (٤)» يوم الجمعة ٣ ذو القعدة ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات،

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق وأشرف الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي،

اللهم اجعل أعمالنا خالصة لوجهك الكريم.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وإن للتقوى تطبيقات كثيرة لا يستغني الإنسان أن يراعيها، إذا أراد أن يكون من المتقين الذين يحبهم الله عز وجل، أن يكونوا من أهل الصراط المستقيم، ومن تلك التطبيقات والمجالات مسألة التشريع، الحكم على الأشياء بالحلية والحرمة أو بالكراهة والاستحباب أو بالوجوب، أو حتى بالصواب والخطأ. ولذلك، نحتاج إلى أن نعرف، هل أن لله عز وجل حكما في هذا الباب؟ هل له قيم أخلاقية في هذا الباب موجبة تثبته، سلبية تنفيه؟.

 

ولذلك، توزعت العلوم الإسلامية على مسارات ثلاثة أساسية:

[المسار الأول]علم العقائد، الذي يعطيك تصور عن الخالق والمخلوق، نتعرف في علم العقائد على الله عز وجل، في الإطار في الجانب الواجب، ونتعرف على صلة الخالق عز وجل، بالمخلوقين كيف تتحقق، من خلال النبوة والرسالات والإمامة، علاقة المخلوق بالخالق من حيث أن الله عز وجل، سيرجعه إليه وسيحشره، ليحاسبه على ما قدم وأخر، هذا في علم.

[المسار الثاني] وهناك علم آخر، هو ما نعرفه أو ما نتعرف فيه أو ما يُعرف بـ “علم الفقه”.

والذي نعرف فيه حكم الحلال والحرام، هل يجوز هذا؟ هل يحرم هذا؟ هل يجب هذا؟ ما هي الشروط؟ ما هي الأجزاء؟ ما هي الواجبات؟ وفي كل تصرف يصدر منك أيها المؤمن والمسلم، بل الإنسان، لله عز وجل، فيه حكم كما أشرنا إليه فيما مضى.

 

المسار الثالث: الأخلاقيات.

الأخلاقيات، يعني تحب كيف؟ كيف تحب؟ من تحب؟ إطار المحبة؟ هل أنت حر؟ تحب من تشاء؟ الله سبحانه وتعالى، يحدد لنا أطراً، بحيث نحصر محبتنا في من يقربنا إلى الله، ونعادي من يبعدنا عن الله عز وجل، في الزيارة الجامعة ماذا نقرأ؟

حتى “أهل البيت” (سلام الله عليهم) ما الذي يدفعنا ويلزمنا أن نتقرب إليهم، نودهم ونحبهم؟ لأنهم الأقرب إلى الله. فنقول: (اللّهُمَّ إِنِّي لَوْ وَجَدْتُ شُفَعاءَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ مُحَمَّدٍ وَأَهْلِ بَيْتِهِ الاَخْيارِ الأَئِمَّةِ الاَبْرارِ لَجَعَلْتَهُمْ شُفَعائِي) لكن لمّا فحصنا عالم الوجود، بهداية من الله عز وجل، لا نجد إلّا رسول الله (صلى الله عليه وآله) وآله، الذين طهرهم. ومعنى التطهير معنى واسع، يعني أنك إذا أردت أن تعتصم بحبل الله المتين، فليس لك إلا هؤلاء، ومن ثم ألزمنا – االله عز وجل – بمودتهم ومحبتهم والتقرب إليه، من خلالهم وبهم {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.

لكن، لما تفرق الناس عن من جعلهم الله عز وجل، أنبيائه ورسله وأوليائه، تفرق الناس وأيدي سبأ، كل شخص يقول أنا حر، أنا أشرع لنفسي، أنا أحل، أنا أحرم، أنا أصوب، أنا اخطئ، فوقع الناس فيما وقعوا فيه، والله سبحانه وتعالى، توالت الرسل منه من أجل أن يعيدهم إلى الصواب (تترى رسله) يعني التتابع هذا التتابع من “آدم” الذي هو أول إنسان وأول نبي إلى آخر نبي، ثم امتدت مسيرة الوصية والولاية والإمامة، من عند الله عز وجل وبأمر منه، وقد جعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما تواتر عنه عند المسلمين جميعاً، أنه تارك فينا ما إن تمسكنا به لن نضل بعده أبدا (كتاب الله وعترتي).

فإذن، هناك دستور نظري وهناك عارفون بهذا الدستور، ملتزمون بهذا الدستور، من أراد هذا ومن أراد التطبيق، فليس له إلّا أن يعتصم بهذا الحبل المتين.

في سياق ما كنا نتحدث عنه، أريد أن أقف – وإياكم – بإيجاز شديد جداً، على نص مروي عن أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة والسلام) يبيّن لنا كم امتنَ الله عز وجل، علينا بدين الإسلام وتشريعه، كيف كان حال الناس، لما بعث الله عز وجل، الرسول، وكيف ينبغي للناس أن يهتموا بهذه النعمة المتينة جداً.

هذا النص يرويه “مسعدة ابن صدقة عن أبي عبدالله الصادق (عليه السلام) – هناك محطات كثيرة، لا أريد أن أقف عندها في التفصيل، فقط في الإجماليات – قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (أيها الناس) واضح أن هذا خطبة أو كلام عام (إن الله تبارك وتعالى أرسل إليكم الرسول صلى الله عليه وآله وأنزل إليه الكتاب بالحق وأنتم أميون عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله).

فإذن، الموجب الأول واللطف الإلهي الأول، هو أن الناس لم يكونوا على صلة، بالخصوص البيئة العربية، البيئة المشركة الكافرة، “قريش” ومن يشترك معها في هذه الثقافة، كانوا أجنبيين عن معرفة الحق وعن معرفة الله وعن ضرورة ولزوم إرسال الرسل، وبالتالي، صاروا في جاهلية جهلاء.

يشير الإمام (عليه السلام) يضرب مصاديق (…وأنزل إليه الكتاب بالحق…) مهم أن يكون الإنسان يرتبط بالحق وارتباطنا بالقرآن الكريم، لأن القرآن الكريم، يضع النقاط على الحروف، فيما يتعلق بالحق ولذلك، لا نساوم، كل شيء خالف كتاب الله فهو زخرف، حتى ما يُروى عن النبي (صلى الله عليه وآله، وعن آله، عليهم أفضل الصلاة والسلام، الميزان في قبولنا له هو موافقته للكتاب الكريم، فإن لم يوافق، لا نقول أن هذا كلام “رسول الله” ونرده، ولا أنه كلام “أهل البيت” ونرده، نقول رسول الله لم يقله، الأئمة لم يقولوه، الرواة أخطأوا، الرواة تعمّدوا الكذب! أياً كان، لكن نجنب هذه الساحة الطاهرة التي شهد الله عز وجل، لها بالطهارة، لا يصدر منها كلام إلّا ما يوافق القرآن الكريم.

(وأنتم أميون) يعني جهلة غير عارفين أجنبيون (عن الكتاب ومن أنزله، وعن الرسول ومن أرسله، على حين فترة من الرسل) فترة يعني تراخي، يعني الله سبحانه وتعالى، من بعد عيسى إلى زمن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، المشهور لم يوجد هناك أنبياء ولا رسل، يعني (٦) قرون تقريباً وزيادة، لم يكن هناك نبي، وبطبيعة الحال، إذا لم يكن هناك نبي، يعني لا يوجد معلّم، يعني لا يوجد حق، لم يبقى من الحق إلا شذرات قليلة.

(على حين فترة من الرسل وطول هجعة من الأمم) طبعاً، إذا لم يكن هناك رسل، الأمم ستكون في حالة خمود وركود، وهذا ليس حال العرب الذين كانوا أميين حتى على مستوى القراءة والكتابة، حتى الأمم التي تعلمت علوم الدنيا، إذا ابتعدت عن مسارات الأنبياء والرسل، سيكونون بعيدين عن الحق الذي لا يوجد إلّا في الكتاب الكريم، حتى لا يقول أحد أولئك كانوا محتاجين لأنهم أميون أما الآن، فالناس تعلّموا وتمدنوا بالتالي، لسنا في حاجة، لا!

حاجتنا إلى الله لا يمكن أن تنقطع، لا الأمي يستغني عنها ولا العالم يستغني عنها، حتى الأنبياء والرسل، لا يمكن أن يستغنوا عن هداية من الله (وطول هجعة من الأمم وانبساط من الجهل) يعني الجهل لم يكن محصور في زاوية، وإنما انبسط على جميع مناحي الحياة، في السلوكيات الفردية والسلوكيات العامة، في القيم، في الأخلاق، في التصورات.

ولذلك، صح أن توصف تلك الفترة بالجاهلية، والله سبحانه وتعالى، يعيب على الناس يقول: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} جئنا لكم بالحق، جئنا لكم بالنور المبين، فلا يمكن ولا يعقل للإنسان العاقل أن يقدم هذا الذي هو جهل، على هذا الذي هو علم ونور.

(واعتراض من الفتنة) الفتنة تطبيقات الجهل، هذه أيضا لم تكن محصورة، وإنما اعترضت، يعني عمّت، شملت جميع مناحي الحياة.

(وانتقاض من المبرم) المبرم الشيء المحكم الأصيل الذي كان يجب أن يتوثق به الناس، لكن حتى هذه انتقضت، مثل القيم الأخلاقية التي كانت وهناك من يريد أن يشيعها الآن.

يعني مثلا، العلاقات الجنسية بين الرجال والنساء، في شيء اسمه “عيب” هناك شيء اسمه “محرم” كان في السابق يمارس خلافه ويروج، الآن، مع تقدم الناس علمياً وتقنياً، يُراد أن يُقال بأن علاقات الرجل والمرأة “مسألة حرية” تريد أن تتصل برجل، تريد أن تتصل بامرأة، يعني حتى التعابير، بدل ما يقولون مثلاً – أجلكم الله لواط، زنا – يقول لك “مثلي” لا، مو مثلي، لواط..!سمّي الأشياء بأسمائها، حتى يُعرف القبيح كما هو، أما إذا خفف التعبير، يقول لك “حرية شخصية”..! هذا نوع من أنواع انبساط الجهل وانتقاض المبرم.

(وعمىً عن الحق) يعني لا يرونه (واعتساف من الجور) يعني جور شديد ومبالغ فيه (وامتحاق من الدين) يعني الدين لم يبقى منه شيء (وتلظ من الحروب) حروب أيضاً ما كانت اشتباكات بسيطة وفترة معينة، لا، حروب ضارية، حتى أن أحداً ما كان يأمن على نفسه وكان الناس يأنسون بشهر رجب وذي القعدة وذي الحجة ومحرم، لأنه تسكن فيها النفوس رعاية للحج والعمرة.

(على حين اصفرار من رياض جنات الدنيا) يعني بساتين الدنيا، هذا تعبير كنائي، يقول حتى البساتين، حتى الحقول اصفرت، يعني كناية عن أنه لا يوجد فيها خير.

(ويبس من أغصانها، وانتثار من ورقها، ويأس من ثمرها، وغرار من مائها، قد درست أعلام الهدى) درست يعني انمحت (فظهرت أعلام الردى، فالدنيا متجهمة في وجوه أهلها).

يأس، احباط، ما كان يوجد شيء من الأمل، ولذلك، لماذا نجد استقبال الناس كان استقبالا جيدا للنبي الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ بالخصوص من الطبقات والشرائح المسحوقة من المجتمع العبيد والإماء وصغار السن، كانوا مسحوقين، في حين أن أصحاب المصالح ما كانوا يرحبون بالنبي (صلى الله عليه وآله).

(فالدنيا متجهمة في وجوه أهلها مكفهرة مدبرة غير مقبلة، ثمرتها الفتنة، وطعامها الجيفة، وشعارها الخوف، ودثارها السيف) كل هذه تعابير كنائية، عن سوء الوضع البالغ، حتى نعرف قيمة التشريع الذي هو من عند الله وشأن إلهي خاص.

(مُزقتم كل ممزق، وقد أعمت عيون أهلها وأظلمت عليها أيامها، قد قطعوا أرحامهم وسفكوا دماءهم ودفنوا في التراب الموؤدة بينهم من أولادهم) يعني كانوا يدفنون البنات أحياء، كانوا يعني {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِٱلْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُۥ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ}.

(يجتاز دونهم طيب العيش، ورفاهية خفوض الدنيا) ما كان عندهم أمل في أن عيشهم يطيب وأن الدنيا تحسن أحوالهم (لا يرجون من الله ثوابا) لا علاقة لهم بالله ولا بالآخرة (ولا يخافون والله منه عقابا، حيهم أعمى نجس) أو (نحس) رواية أخرى، يعني الحي، لأنه إذا خلي الإنسان من القيم، الصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان، ولذلك، تجد أنت اليوم، أولئك الذين لا يتصلون بالله عز وجل، شعاراتهم قد تكون لطيفة وحسنة، لكن في ممارساتهم اليومية والعملية، تجد ناسا وحوشا، لا يعرفون خيراً ولا يعرفون لأحد إلّا ولا ذمة.

(وميتهم في النار مبلس) إذا كان هذا حياته الدنيا أو آخرته ومصيره سيكون تبع لدنياه، (فجاءهم أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنسخة ما في الصحف الأولى) البعوث التي بعثها الله عز وجل، من الأنبياء السابقين والتي كان الناس يحنون إليها، هذا ما جاء به رسول الله (صلى الله عليه وآله).

(وتصديق الذي بين يديه وتفصيل الحلال من ريب الحرام، ذلك القرآن فاستنطقوه) هذه هي النعمة التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) والتي نقول أن التشريع المتضمن فيها، هو شأن الله، لأنه فرع ولايته وفرع علمه وفرع لطفه، وليس شيء من هذا عند البشر.

(فاستنطقوه ولن ينطق لكم) “أمير المؤمنين” يقول استنطقوا القرآن، لكن يقول لن ينطق لكم أنتم، فقط، يريد أن ينبه إلى مبدأ استنطاق القرآن الكريم، ثم يرشد إلى طريقة استنطاق الكريم، وهي الرجوع إلى النبي (صلى الله عليه وآله) وإلى من أحاط بعلم النبي وأوصى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بهم – أي العترة – الذين قال إنهم لن يفترقا عن القرآن إلى الحوض.

(ولن ينطق لكم أخبركم عنه) يعني “أمير المؤمنين” يقول إذا أردتم استنطاق القرآن الكريم، فتعالوا إليّ (إن فيه) أي القرآن الكريم، طبعاً لما يقول (إن فيه علم ما مضى) القرآن نقرأه، نحن لا نعرف علم ما مضى، بعض ما مضى، بعض العلم مما مضى نعرفه، لكن “أمير المؤمنين” يقول لا، أنا أعرف كل ما جاء في القرآن الكريم، مما فيه من العلم الذي مضى وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة.

وأيضاً يقول (صلوات الله وسلامه عليه): (وعلم ما بينكم، وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلمتكم) لذلك، اشتهرت عنه هذه الكلمة (سلوني قبل أن تفقدوني).

السؤال نعمة، الاستنطاق للقرآن الكريم نعمة، لكن {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}.

فإذن، التشريع الإلهي أو التشريع، شأن إلهي خاص لله عز وجل، وهذا هو بابه، الرجوع إلى القرآن ومن أمر الله عز وجل، ورسوله، إلى الرجوع إليهم، حتى نتعرف على القرآن، وللحديث تتمة.

اسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا،

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى