حديث الجمعة

حديث الجمعة لسماحة السيد حسن النمر .. «ظلمات قريش ونور الاسلام»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «ظلمات قريش ونور الاسلام» يوم الجمعة ١٥ ربيع الأول ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق والمرسلين، أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين‫.

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي‫.

عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله‫.

نتشرف وإياكم في هذا الاسبوع بذكرى مولد النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حيث يحتفل المسلمون في أقاصي الدنيا بهذه الذكرى المجيدة بين الثاني عشر من شهر ربيع الأول والسابع عشر منه.

وكذلك يصادف في يوم السابع عشر من هذا الشهر الكريم، أي ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وآله، ذكرى ميلاد إمام المذهب “جعفر بن محمد الصادق” صلوات الله وسلامه عليه، ومن اللائق بنا وبكم، أن نشارك في هذا الاحتفال، لأن هذا من أقل ما يجب علينا تجاه النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، بل تجاه نعمة هي من عند الله عز وجل، من أعظم النعم وهي أن منّ علينا وعليكم بهذا الوجود المبارك الذي انتشلنا الله عزوجل، به من الظلمات الى النور.

وبهذه المناسبة، نريد أن نتحدث تحت عنوان «ظلمات قريش ونور الاسلام».

الذي يريد أن يخوض في هذا الباب «ظلمات قريش» لا يستطيع أن يستوعب ذلك في حديث أو حديثين، بل يحتاج منه وقفات كثيرة وكتب كثيرة حتى نتعرّف على بعض ما أجرمته «قريش» في حق الإنسانية.

وحينما نتحدث عن «قريش» نتحدث عن قريش الكافرة، قريش الظالمة، قريش التي ارتكست في هذا العالم والتي لانزال -للأسف الشديد- ندفع آثار هذا الظلم وهذه الظلمات.

لا نتحدث عن مجموعة من الأشخاص ولا عن أسرة من الأسر، وإنما صادف أن تكون معاصرة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لذلك، حينما نتحدث عنها، نتحدث عمن يشاركها في هذا السلوك وفي هذه القيم المنحرفة، التي جاء الإسلام بنوره الوقّاد من أجل أن يبدده الله عز وجل، من خلال النبي وذكره صلوات الله وسلامه عليه.

لنا أن نرجع فيما يتعلق بانحراف البشرية الى الزمن السحيق، إلى أول ما وطأت قدم أبينا “آدم” عليه أفضل الصلاة والسلام، ونحن نعلم أن “آدم” صلوات الله وسلامه عليه، نتيجة خطأ واحد وقع فيه، أنزله الله عز وجل، من الجنة الى عالم الأرض حيث الشقاء، لكنه حينما أنزله الى الأرض، بيّن له أن معيشته في هذه الدنيا هي ليست عقوبة، كما يعتقدها مثلا النصارى، بحيث يعتقدون أن عالم الدنيا هو عالم الخطيئة، لن ينجو الناس من خطيئة “آدم” الأولى إلّا بالموت، نحن لا نعتقد هذا المعنى، نحن نعتقد بما جاء الاسلام ليجعله قاعدة {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}.

“آدم” وقع فيما وقع فيه هو و”حواء” دفع ثمن ذلك أن أنزله الله عز وجل، من الجنة الى الدنيا، علما أن “آدم” المعصوم، “آدم” النبي، “آدم” الخليفة لله عز وجل، لم يخالف الحق سبحانه وتعالى في أمر تشريعي، فلما كان نبيا، جل مقامه عن أن يخالف تشريعات الله، وإنما وجه الله عز وجل، إليه توجيها، إرشادا، أنه ليس من مصلحتك أن تقترب من هذه الشجرة، مع علم الله عز وجل، أن “آدم” سيوسوس له الشيطان وسيقترب من هذه الشجرة وسيدفع هذا الثمن.

لكن التشريع الذي يستلزم مخالفته العقوبة من الله حصل في هذا العالم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} يعني بعد أن أنزله الله عز وجل، الى عالم الدنيا خوطب بالتشريعات، بعد هذه التشريعات التي تواتر الأنبياء بها من عند الله عز وجل، أمرا ونهيا، فإن من يخالف أمر الله ونهيه، عليه أن يتحمل تبعات ما يعمل، كل يأتي الله عزوجل، فردا {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ} كل بعمله {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}.

تواتر الأنبياء، من “آدم” الى أن ختم الله عز وجل، مسيرة الأنبياء بخاتم النبيين “محمد” صلى الله عليه وآله وسلم.

القرآن نص على أنه خاتم النبيين، هو صلى الله عليه وآله وسلم، قال، عن “علي” عليه أفضل الصلاة والسلام، أنه (بمنزله هارون) أنه منه (بمنزله هارون من موسى إلّا أنه لا نبي بعدي) فإذن، لا رسالة تُرتجى غير رسالة النبي ولا نبي بعد النبي ولا كتاب بعد كتابه.

ما هو المطلوب إذن؟

المطلوب أن يحسن الناس جميعا، الذين أرسل الله عز وجل، نبيه محمدا صلى الله عليه وآله، إليهم أن يحسنوا الاستجابة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} جاءت دعوه النبي ليحيى الانسان، كيف يحيا الانسان؟ أن يخرج من الظلمات الى النور.

ليس المقصود الظلمة المادية، الظلمة المادية ليست عيبا، كما أن العمى ليس عيبا، العمى لا يحول بين الانسان وبين أن يكون من أهل الجنة، أن يعيش الانسان في عالم الظلمة المادية لا يحول بينه وبين أن يكون من المطيعين، وأن يكون الانسان تحت المصابيح والاشعاعات لا يجعله من الصالحين.

الحديث هنا عن الظلمات العقلية والروحية، الظلمات الدينية التي تدفع بالإنسان الى أن يظلم، حتى رُوي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال (الظلم ظلمات يوم القيامة) وأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، يتعوذ بالله عز وجل، ويفتخر بانه لن يقدم على الله في أن يأخذ أو يعتدي ويظلم نملة في جلب شعيرة، كناية عن أن الظلم يبعدك عن الله أيها الانسان، فكيف إذا كان هذا الظلم في حق الله، في حق أنبياء الله، في حق أولياء الله، كل هذه ستجعل الانسان ينتقل من ظلمة الى ظلمة.

أسوق على ذلك مثالا، من حادثة معروفة:

بعد أن بعث الله عز وجل، للنبي الكريم، عاش كثيرا من المعاناة هو ومن آمن معه، حتى اضطر النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يدفع بجماعة من أصحابه في “مكة المكرمة” لشدة ما لاقوه وما عانوه، أن يهاجروا الى “الحبشة” (فإن بها ملكا لا يُظلم عنده أحد) الرواية معروفة في السيرة ومنقولة بأسانيد معتبرة.

أريد أن أقف عند خمس ظلامات عانى منها المسلمون، وهذه الظلمات هي خمس ظلمات أبتُليت بها “قريش” لأنها قطعت صلتها بمن كانت تفتخر به على العرب، “قريش” كانت تفتخر بين الناس أنهم ذرية “إبراهيم”، سلاله “إبراهيم”، بأنهم أهل البيت، بأنهم آل الله، العرب كانوا يحترمون “قريشا” بهذا الاعتبار.

“إبراهيم” ماذا كان سلوكه؟

كان يجب على “قريش” التي تنتسب إليه وتعتز به أن يكونوا ممن اتبعه “إبراهيم” يقول {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} لكن “قريشا” الذي كانت تفاخر وتتكبر على العرب بالكعبة المشرفة، كانت على النقيض من هذا، جاء رسول الله صلى الله عليه وآله، داعيا الى الله، داعيا إلى ما كانوا يجعلونه مزاحما لله عز وجل، أي الأصنام، لكنهم لم يحتملوا ذلك من النبي ولا من أصحابه، فأخذوا في إيقاع الظلم والشدائد عليهم.

هذا يكشف عن أن “قريشا” كانت تكذب، كانت تدلس في دعواها أنها تحمي “البيت” وأنها تنتسب الى “إبراهيم” عليه أفضل الصلاة والسلام، “إبراهيم” لا ينتسب إليه ولا يكون منه إلّا الصالحون، سواء كانوا من نسله أو لم يكونوا من نسله.

“أحمد بن حنبل” يروي بسنده عن “أم سلمة” والسند معتبر والرواية معروفة، يقول “عن أم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم…” وآله مني، هذه الظلامة الأولى، أنا أتكلم عن:

الظلامة الاولى والظلم الأول والظلامة الأولى، التي وقعت فيها “قريش”: الاستبداد والظلم.

ومعنى أن يكون الانسان مستبدا ظالما، يعني أن يزاحم الآخر في حقه المشروع، حقه الفطري، حقه العقلائي، حق الانسان العقلي العقلائي الذي انتهي إليه البشر أو يقبله البشر، سابقا ولاحقا، أن حقه أن يفكر، خلق الله عز وجل، الناس عقلاء ومن حق كل إنسان أن يفعّل عقله، حتى ينتهي الى ما انتهى إليه العقل الذي يشاركه فيه الناس، فإذا فعّل الانسان عقله، ليس من حق الآخرين أن يزاحموه.

نعم، من حق الناس أن يبينوا له الخطأ، إذا كان خطأ، لكن في حدود الانصاف.

فتقول “قالت فلما نزلنا أرض الحبشة…” لأنها كانت ممن اضطر أن يهاجر قبل أن تتزوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم “جاورنا بها خير جار أمِنا على ديننا..” لأن قريش ما كانت تجعل الواحد منهم يأمن على دينه “وعبدنا الله لا نؤذى…” قريش كانت تؤذي حتى في العبادة، مع أنه من المنطق أن يُحترم الانسان في عبادته، لكن الذي يشعر بأنه قوي ويكون ظالما ومستبد لا يحترم الآخرين، لذلك تجده يتنمر على الضعيف ويتقاعس ويتصاغر أمام من يشعر بأنه قوي، مع أنه يخالف هذا ويخالف هذا، لكن لأنه يقدّر أن هذا أقوى منه، يخنع له، ويقدّر أن هذا أضعف منه، فيستضعفه، مع أن هذا يخالفه وهذا يخالفه، “قريش” هكذا كانت تفعل.

قالت “وعبدنا الله لا نُؤذى ولا نسمع شيئا نكرهه…” ما كان أحد يؤذينا، طبعا مع أن “النجاشي” والحبشة – اثيوبيا حاليا- أيضا كانوا مخالفين لهم في الدين، لماذا احتمل النصارى في “الحبشة” أن يتديّن المسلمون بدينهم ولم يحتمل القرشيون أن يتديّن المسلمون بدينهم، فليكن هؤلاء يخالفونهم وهؤلاء يخالفونهم، هذه الظلامة الأولى.

الظلام الثانية: شراء الذمم.

“قريش” كانت، باعتبارها من أهل الثراء في أوساط العرب، الله عز وجل، يسر لهم أن تنتقل تجارات الناس من الشمال إلى الجنوب بواسطتهم، فكانوا أثرى العرب، هذا الثراء بدل أن يكون نعمة عند قريش حولوه إلى نقمة، لما بعثوا الوفد الى “الحبشة” كان من أهم الوسائل التي أرادوا أن يستعينوا بها لاسترجاع المسلمين هو شراء الذمم.

فتقول “فلما بلغ ذلك قريشا إئتمروا أن يبعثوا الى النجاشي…” إئتمروا يعني توافقوا، يعني عقدوا مؤتمرا فيما بينهم واتفقوا على أن يبعثوا “الى النجاشي فينا رجلين جلدين…” يعني شرسَين، بطّاشَين ” وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم…”.

“الأدم” نوع من الجلود، لعله كان يدبغ في “مكة” أو يُجلب من “مكة” باعتبار يحج إليها الناس، يذبح فيها الذبائح فيتوفر جلود كثيرة، لعل هناك دباغين.

” فجمعوا له أدمًا كثيرًا، ولم يتركوا من بطارقته بطريقًا إلا أهدوا له هدية…” البطارقة هم الحاشية الدينية، علماء الدين وسنأتي على ذكرهم، الذين كانوا منه.

الظلامة الثالثة: الرشوة.

يشترون الذمم والرشوة، وهما أمران متقاربان.

” ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي، وأمروهما أمرهم…” يعني حملوا الرسالة المطلوبة ” وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه، ثم سلوه أن يُسلِمَهم إليكم قبل أن يكلمهم…..” يعني خبراء في طريقه شراء الذمة والرشوة، يعرفون التوقيت المناسب لإيقاع الانسان في حبائلهم.

الظلامة الرابعة والظلم الرابع والظلمة الرابعة التي ابتُليت بها “قريش”: الحيلة والخداع والتكفير.

” قالت: فخرجا فقدما على النجاشي، ونحن عنده بخير دار وخير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي، ثم قالا لكل بطريق منهم: ….”

لم يكتفوا بالحديث مع رئيس البطارقة ولا واحد منهم، خشوا أن يكون هذا غير مؤثر وذاك غير مؤثر، أرادوا أن يشكلوا رأيا عاما ضاغطا على النجاشي ” إنه صبأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء….”

وهذا التعبير هو ما استعمله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن هلاك هذه الأمة (على ايدي أغيلمة من قريش) متى هذا؟ بعد الإسلام، يعني أن النَفَس نفس النَفَس، الثقافة هي الثقافة، ما تغير منها شيء، لكن اللبوس -للأسف الشديد تغير- كانت في الظاهر، سابقا تعلن شركها ثم بعد الاسلام صارت تظهر الإسلام، فحاربته من الداخل.

” فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم…” يحرضونهم ايضا ” وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم….” قريش هنا تكذب، لأن ما جاء به النبي هو ما جاء به “إبراهيم” {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا ……. وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ما كان يدعو إليه محمد صلى الله عليه وآله، هو ما جاء به “إبراهيم” صلوات الله وسلامه عليه.

” وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم، لنردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه.” أو تشيروا عليه في نسخة أخرى” بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم…” احنا طلبنا ألا يدخل معهم في حوار، فقط يسلمهم لنا، لا تسمعوا لهم، مثل ما كان الأعراب إذا جاءوا الى “مكة” كانوا يقولوا لهم {لَا تَسْمَعُواْ لِهَٰذَا ٱلْقُرْءَانِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ} بل كان بعضهم يتبرع بالقطن الى بعض من يُخشى أن يتأثر بالنبي، حتى لا يسمع الكلام الحق، بالضبط مثل ما الآن يُمارس، يقطعون “الفيسبوك” يقطعون “التويتر” نفس الأسلوب، ما تغير، مشكله “هابيل وقابيل” هي تتكرر في كل جيل من الأجيال.

لذلك، فإن جوهر ما يدعوا إليه الأنبياء واحد، لأن مشكلة الانسان، قديما وحديثا، هي واحدة، الظلمة والنور.

“قال فهم أعلم…” أي قريش” فهم أعلى بهم عينا….” يعني أحفظ لهم، أليق بهم “وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه…. قالت: ولم يكن شيء أبغضَ إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم….”.

متى تتحدث “أم سلمة” بهذا الحديث؟

ليس قبل الاسلام بل بعد الاسلام بفترة، وهي تتحدث عن شخص عُد ايضا من الصحابة.

هذه هي ما ابتلي به.

الظلامة الخامسة التي وقعوا فيها: قلب القيم والمفاهيم.

أرادوا أن يتلاعبوا بما عندهم، يصوروه بالصورة الحسنة وما عند المسلمين أن يصوروه بالصورة السيئة.

قالت ” ثم إنهما …” أي ابن العاص وشريكه ” إنهما قرَّبا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه فقالا له: أيها الملك، إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم…” نفس المضمون الذي ذكرته فيما مضى.

هنا يأتي دور البطارقة الذين اشتروا ذممهم ورشوهم.

أنا قطعت مقطعا، لأنه مضمون مكرر.

” فقالت بطارقة حوله صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عينا وأعلم بما عابوا عليهم …” لا حاجة إلى أن تفحص أنت، أهلهم أعرف بهم…!

ولذلك، تجدون إذا أراد أحد أن يشوه أحدا، أيسر ما يكون عليه أن يقول هذا خاله يؤذيه، مثلا كانوا يعتمدون على “أبي لهب” يدفعون بـ”أبي لهب” لأن يكون هو الساعي لتكذيب النبي، حتى إذا قال الناس، قالوا هذا عمّه يكذّبه عمّه، هذا خاله، هذا ابن عمه، نحن أقرباؤه ونحن أعرف الناس به، مع أن في منطق التقييم للأفكار يمكن للبعيد أن يدرك ما لا يدركه القريب، ويمكن للبعيد أن يؤمن بالحق الذي لم يؤمن به القريب، المسألة لا ترتبط بالقرابة والبعد في هذا الجانب.

يأتي هنا دور الله عز وجل، وتأييده ونصره، بحيث تُقلب الطاولة عليهم، فيأتي مكر الله، لأنهم {يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}.

” قالت: فغضب النجاشي…” النجاشي غضب على بطارقته، لأنهم أرادوا أن يلقنوه وهو فوق وأكثر حكمة وأكثر ذكاءا من أن تمرر عليه هذه المؤامرة.

ثم “قالت فغضب النجاشي ثم قال: لا هَيمُ الله….” هذا يمين، يعني لا والله ” ثم قال: لا هَيمُ الله إذن لا أسلمهم إليهما ولا أُكادُ قومًا جاوروني …” هؤلاء دخلوا في جواري، يكيدونني فيمن دخل في جواري؟! يعني المنطق الدبلوماسي والسمعة لا تسمح لنا بهذا.

“ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي، حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقول هذان في أمرهم؟…”

وهذا هو المنطق، لو أن أحدا نقل إليك شيئا من حقك، بل من العقلائية والعدل أن تنصف الخصم الذي جاؤا، فتقول مثل ما سمعت منكم، أسمع منهم، لعل هؤلاء عندهم شيء لم تقولوه لنا.

يقول ” فإن كانوا كما يقولون أسلمتهم إليهما، ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما، وأحسنت جوارهم، ما جاوروني…” هذا الأمر يرجع إليهم.

يأتي هنا بعد مكر الله عز وجل، هذه المرحلة الأولى.

المرحلة الثانية: التغليب.

لما استدعى النجاشي، استدعاهم فسمع منهم، “قالت…” أي “أم سلمة” رضوان الله عليها ” ثم أرسل النجاشي إلى أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا:….”.

طبعا المتحدث كان “جعفر بن أبي طالب” المكلّف من قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بإمارة هذه الجماعة التي هاجرت الى “الحبشة”.

” قالوا: نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبيّنا – صلى الله عليه وسلم …” وآله” – كائنًا في ذلك ما هو كائن …” يعني فليحصل ما يحصل ” فلما جاؤوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم…” كتبهم الدينية ” حوله، سألهم فقال: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا ديني ولا دين أحد من هذه الأمم؟

قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب …” عليه السلام، مني” ” فقال له: أيها الملك….” هنا الآن يكشف، جعفر بن أبي طالب يكشف ما الذي كان عليه “قريش” الذي كانت تتفاخر على العرب بأنها “سدنة البيت” يعني أنكم أنتم أيها الناس، تحتاجون إلينا، نحن “حملة بيت الله” لنرى، سدنة “بيت الله” ماذا كانوا يفعلون؟!.

” أيها الملك، كنا قومًا أهل جاهلية…” طبعا “جعفر” يتحدث عن المجتمع الذي كان فيه، ليس عن شخصه، لأنه سيذكر أفعالا بالقطع واليقين “جعفر” لم يكن من أصحاب هذه الاقوال.

” كنا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام…” “جعفر” بالتأكيد ليس من القوم الذين يعبدون الاصنام، كما يعبد هؤلاء ” ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش …” وبالتأكيد “جعفر” ليس من هؤلاء ” ونقطع الارحام…” و”جعفر” أيضا لم يكن من هؤلاء، وهذا يؤكد على أن “جعفر” ما كان يتحدث عن شخصه، وإنما يتكلم عن البيئة التي جاء النبي صلى الله عليه وآله، لينتشلها من الظلمات التي فيه وينقلها الى نور الاسلام ونور الله عز وجل.

“ونسيء الجوار، يأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه، وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئًا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام…”.

يعني أن كل هذا لم تكن “قريش” تفعله..!

ولا أدري بالتالي، كيف تكون صلته بالـ”كعبة” وبـ”بيت الله” وبـ”الله” عز وجل حتى تكون أفضل من غيرهم؟!

هذا شيء يحتاج إلى معادلة معقدة، لا أعتقد أن أحدا يستطيع أن يتوصل إليها، تماما، كما يكرر كثير من الظالمين، تجد منطقه ولسانه طويلا في الحديث عن القيم الأخلاقية، لكنك تسمع شيئا وترى أشياء أخرى.

قال” فعدد عليه أمور الإسلام…فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به فعبدنا الله وحده، فلم نشرك به شيئًا، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا، فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا، وشقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألا نظلم عندك أيها الملك”.

منطق حكيم، صادق، عالم، ينطبق عليه ما جاءت التأديب من الله عزوجل به {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} رجاء تصدق.

“فقال النجاشي هل معك مما جاء به عن الله من شيء…” يعني هذا الوحي الذي نزل إليكم، وهذا “النجاشي” وثقافته نصرانية، يريد أن يسمع، هل يشبه ما نزل على “محمد” صلى الله عليه وآله، ما نزل على “عيسى” مما نتوارثه.

“قالت فقال له جعفر نعم فقال له النجاشي فاقرأ عليّ فقرأ عليه صدرا من كهيعص…” هذا ما نزل  يتحدث عن “مريم” وعن “عيسى” وهذا حسن الاختيار وحسن الاستهلال وحسن التخلص وهذا يدل على أن المسلمين ما كانوا سواءا في فهم الاسلام وفقهه، لا في أوله ولا في وسطه ولا في آخره، وهذا يؤكد عن أن النبي صلى الله عليه لم يكن قد بعث “جعفرا” وأصحابه للنجاة بجلودهم انفسهم فقط، وإنما كان الأمر أزيد من ذلك، والشاهد عليه هو أن “جعفر بن أبي طالب” صلوات الله وسلامه عليه، إنما رجع من مهاجره الى “الحبشة” في السنة السابعة من هجرة النبي الى المدينة، ولو أن المسألة كانت تقف عند حدود حفظ النفس، كان بمجرد أن ينتقل النبي ويهاجر الى “المدينه” أن يرجع “جعفر” ومن معه، لما الانتظار سبع سنوات، يبقى هناك بعد هجرة النبي؟ هذا يؤكد على أن هناك بيئة أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أن يصنعها في “الحبشة” ويبذر بذرة طيبة وبقيت هذه البذرة الطيبة.

لذلك، فمن حق المسلمين على أنفسهم ومن حق رسول الله على المسلمين ومن حق الله عز وجل، على المسلمين أن يشكروه ويذكروا رحمة الله ونعمته عليهم {قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ} هذا الله يؤدبنا يبونا فليفرحوا، ينبغي لنا أن نفرح بفضل الله، وأي فضل أفضل من رسول الله؟ وأي رحمة أولى من رسول الله؟ كل الناس الآن يحتفلون بأقل من هذا شأننا، فكيف بأعظم ما أنعم الله عز وجل، به على الناس أجمعين “محمد” صلى الله عليه وآله وسلم، الذي بيّن الله عز وجل، فضله في القرآن الكريم، في مواضع كثيرة منها قوله {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} وقد ورد عن “أهل البيت” عليهم السلام أن هذه الآية هي (أرجى آية في كتاب الله) الشفاعة الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وآله، فإذا ألحقنا بذلك قول الله عز وجل، أنه هو الذي يصلي عليه في قوله سبحانه {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

ندرك شيئا من قدر هذه النعمة لنعرف أنها باب الله الواسع ورحمة الله الواسعة التي لن ينجو أحد إلّا أن يتّبعه، صلى الله عليه وآله، وإلّا أن يطيعه ويوده ويود القربى من رسول الله صلى الله عليه وآله، الذي قال كما أمر الله عز وجل، إياه أن يبلغ الناس {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى}.

جعلنا الله وإياكم ممن يحب رسول الله ويطيع رسول الله وآله وألا يفرق بيننا وبينه وبين آله الطاهرين طرفة عين أبدا.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى