حديث الجمعة

حديث الجمعة : «الحكمة وصفاً للخالق والمخلوق -٣»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الحكمة وصفاً للخالق والمخلوق -٣» يوم الجمعة ١٦ صفر ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على أشرف الخلق وسيد المرسلين محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

عباد الله، أوصيكم ونفسي، بتقوى الله.

في سياق حديثنا عن الحكمة وصفا للخالق والمخلوق، نتوقف عند نص مروي عن إمامنا علي بن موسى الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام، بمناسبه مصادفة ذكرى شهادته يوم غد، نسأل الله عز وجل، أن يرزقنا وإياكم زيارته وشفاعته.

في هذا النص يقترب بنا الإمام الرضا عليه أفضل الصلاة والسلام، الى عالم الحكمة وقد ذكرنا فيما مضى أن الحكمة نوعان: نظرية وعملية.

الحكمة النظرية هي سلسلة المعارف التي يفترض بالإنسان أن يدركها ويستوعبها، على المستوى النظري والعقلي.

أما الحكمة العملية فهي السلوك، كيف ننظم السلوك حتى نكون من أهل الحكمة، حتى لا يكون هناك انفصام بين ما نعلم وما نعمل، فيفترض بالإنسان أن يحلّق في عالم الحكمة بهذين الجناحين، يعلم ما يجب أن يعلم ويعمل ما يجب عليه أن يعمله، وفي العم والعمل هناك جانبان، الجانب الأول عالم الربح والجانب الثاني عالم الخسارة.

قد يسعى الانسان سعيا حثيثا، لكنه لأنه لم يدرك الخارطة اللازمة، يذهب يمينا حيث يجب أن يذهب الى شمالا أو يذهب شمالا حيث يجب أن يذهب يمينا، فعلى الانسان أن يعلم حتى يعرف أين هي الخسارة، فيتجنبها وأين هي الأرباح فيسعى نحوها، والله عز وجل، يقول {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ}ويقول سبحانه وتعالى {وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ}فيخشى على الانسان إذا لم يعلم الحكمة اللازمة أن يبذل جهدا حثيثا كما أن جميع الناس يشتركون في السعي، كل الناس يسعون، في عالم الدنيا ليس هناك من لا يسعى، حتى الانسان النائم، هو في الحقيقة سعى، لكنه سعى في أن يقصّر في حق نفسه، أراد الله عز وجل، الخير، وفّر له ما يجب أن يتوفر، حتى ينجح، لكنه قَبِل بهذا السعي البسيط، أن يريح بدنه، إراحة البدن سعي، لكن في مقام الموازنة، هل هذا هو السعي المطلوب، أم كان يجب عليه أن لا يكون “نُوَمَة”..؟

في بعض الأخبار، ورد (ان الله ليبغض العبد النُوَمَة) وأحد أسباب معاصي الناس حب النوم، وهذا كناية عن حب الراحة.

مثلا، الانسان لأنه يحب النوم، لا يستيقظ لصلاة الصبح، يحب النوم فيؤجل عملا أوجبه الله عز وجل، عليه..!

في مقام الموازنة، ما الذي خسر؟ لا، خسر شيئا كثيرا، قد يظن الانسان أنه صحيح أن الصلاة فاتته، لكنه استدرك الأمر وقضاه، أين هذا وأين هذا..!

فرق كبير، بين أن يصلى الانسان الصلاة في وقتها، وبين أن يكون عاصيا، يسعى في استدراك شيء كثير من الخير، كالإنسان يصيبه المرض في وجهه، كمرض الجدري -الله يمن على جميع المرضى بالشفاء والعافية- صحيح أنه قد يعالج نفسه، لكن آثار الجدري تبقى في وجهه، آثار الخطأ والخطيئة تبقى في كيانه، كذلك الانسان إذا لم يعمل بالقواعد اللازمة.

يقول عليه أفضل الصلاة والسلام، في استعراض بعض القواعد التي ترتبط بتنظيم الذات من الداخل وتنظيم علاقاتنا بالمحيط الذي نعيش فيه، تنظّم نفسك، حتى تستدرك جوانب الخطأ والتي أولها اخطاؤك الداخلية، ثم تعالج المحيط الذي تريد أن تعمل به، لا يكفي أن تصلح نفسك وتُبقي نفسك في بيئة موبوءة.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في الرواية المعروفة يقول (إياكم وخضراء الدمن قيل يا رسول الله وما خضراء الدمن قال المرأة الحسناء في منبت السوء) جيد ومشروع للإنسان أن يبحث عن المرأة الجميلة في شكلها، لكن الأهم من جمال الشكل، كمال الروح، المرأة إذا كانت جميلة ولم تكن عفيفة، الانسان لو أقدم على الزواج بها يأتي بالخراب الى بيته.

وكذلك، النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حينما يوصي، يقول (اختاروا لنطفكم فإن الخال أحد الضجيعين) أو (العرق دساس) وكذلك يقول، عن الرجال، هذا في جانب النساء، في جانب الرجال (إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه) ابنتك هذه أمانه الله عندك، ليس من حقك الأخلاقي والشرعي أن تضحي بهذه البنت، بعد تربية سنين طوال وتعطيها لفلان الذي لم تسأل عنه ولم تستفسر عن حاله، ما هكذا تورد يا سعد الإبل.

يقول صلوات الله وسلامه عليه، “الامام الرضا” (من حاسب نفسه ربح…) محاسبة النفس هذه تعني هذا الأدب الشرعي الذي أُدبنا عليه، هذا الذي يستلزم منا الإكثار من الاستغفار، الإكثار من التوبة، ماذا يعني أن تستغفر، وهذا من المفاهيم التي نالها شيء كثير من العبث، يظنون ان الاستغفار والتوبة -كثير من الناس- يظنون أن الاستغفار والتوبة هو عمل روحي بيننا وبين الله فقط ، لا، هذا جانب، جانبه الآخر -وهو المهم- إصلاح نفسك، الانسان إذا تاب، يعني أقر بأنه أخطأ في حق نفسه في علاقته بالله أو في علاقته بالناس، يستغفر، يطلب من الله عز وجل، أن يمحو آثار هذا الخطأ.

فلذلك، لا قيمه للتوبة والانسان يقول استغفر الله وهو ناوي أن يكرر يوم غد ما استغفر منه ليلة البارحة، مثل هذا الاستغفار لا قيمة له.

وقد رُوي أن أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، غضب على أحدهم، وقد كان تحت منبره، وكان يستغفر، والإمام يعرفه، أن هذا ليس من أهل الاستغفار، قال (ويحك…) الإمام يعظ، صلوات الله وسلامه عليه، ويلقي بمواعظه وحكمه، وما أكثر من كانوا يجلسون تحت منبره وليسوا من أهل الاتعاظ، قال (ويحك، أتعرف ما الاستغفار) أنت جاي كأنك تمسك السبحة تستغفر، تعرف ماذا الاستغفار؟ وذكر له ست (٦) مراتب -قد تُستعرض إن شاء الله في موضوع لاحق- ولعلكم سمعتم هذه الرواية الشريفة.

فيقول الإمام عليه السلام (من حاسب نفسه ربح….) مجرد المحاسبة تجعلك من الرابحين، الإمام يقرر هذه القاعدة، لما؟ لأن الله الحكيم لما خلقك في هذا العالم ووعد بأن لك الجنة، إن كنت من الصالحين، هذا الوعد لم ينبع من فراغ، يعني أنك قادر على أن تكون من أهل الجنة، لكن متى تكون كذلك؟ إذا استعملت ما آتاك الله عز وجل، إياه من الامكانات والطاقات بالشكل الصحيح، هل تحتاج إلى عمر طويل؟ لا، ليس بالضرورة.

ما أكثر من طالت أعمارهم، فخسروا الدنيا والآخرة، قد يكفي للانسان لحظه يقظة، من الضمير، يختم بها عمره، فيجعله الله عز وجل، في أعلى عليين، وقد سجل الحق سبحانه وتعالى، لنا بعض النماذج من ذلك، منهم نموذج “سحرة فرعون”.

كثير من الناس، مثلا “بلعم بن باعورا” هذا واحد كان من الدائرة القريبة من “موسى” عليه أفضل الصلاة والسلام، كان من الرجال الذين قيل أنهم بلغوا حد الولاية لله عزوجل {آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} كيف آتاه الله عز وجل آياتنا؟ يعني سمع من “موسى” مثل ما سمع بنو إسرائيل؟ لا، سمعه كان أكثر رهافة، بلغ شيئا لم يبلغه “بنو إسرائيل” لكنه انسلخ من آياتنا.

فإذن، الانسان إذا حاسب نفسه، عرف مواطن القوة فيها ومواطن الضعف، مواطن الضعف هي إن الانسان من داخله، هناك ثغرة يتسلل منها الشيطان ويؤكد عليه لما العجلة على المسائل الجدية، أمامك عمر طويل، عندك هذه الليلة، إرتح هذه الليلة ويوم غد، ويوم غد يكرر نفس العملية، ولعب على لعب.

حتى تجد أنك في “أيام عرفة” وقد شاهدنا ذلك، حاج بإحرامه في “يوم عرفة” وعنده الجوال، قاعد يلعب لعبة الجوال..!

هل في خسارة أزيد من مثل هذا النموذج من الخسارة؟ هذا من قصور النظر، طبعا لا نقول الانسان عليه أبدا ألا يرفه عن نفسه، لكن هناك فرقا كبيرا بين أن يرفه الانسان عن نفسه من أجل التنفيس وبين أن تكون كل الحياة عبثا.

والآن، هناك من يريد من حياة الناس أن تكون حياة الناس عبثا لا قيمة لها، بحيث أنه لو سألته ماهي خطتك الأسبوعية والشهرية والسنوية، بل العمرية؟ لا تجد عنده مخطط، ما الذي تريد، لا يعرف.

فالإمام عليه السلام، يقول (من حاسب نفسه ربح….) أنت أيها الانسان في سباق مع الزمن، من لا يستثمر الزمن سيجد نفسه خاسر.

إقرأوا حياة الناجحين، حياه الناجحين ما نشأت من فراغ، تجدهم بذلوا الجهد الجهيد، ضحّوا بكثير من الاشياء مما يحرص كثير من الناس على فعله، لأن هذا وازن، دراسته أو ترفيهه، حياته الجادة أو حياة الراحة والخمول؟ كثير من الناس، الجد لا يناسبه، لذلك تجد هذا ينمو وهذا يبقى، هذا ينمو وهذا يبقى، ثم إذا أراد هذا الانسان، صاحب الحظ البسيط، أن يلحق، فاته الزمن.

متى يفوت الانسان الزمن؟ يبلغ من العمر ما شاء الله، كان في سن الشباب، قادرا على أن يفعل الأفاعيل من النشاطات الجادة، لكنه إذا وصل إلى سن الخمسين وسن الستين، وصيتنا للشباب: اسألوا أبناء الخمسين والستين، ماذا تتمنون؟ تضعف قوى الانسان، بصره يضعف، بدنه يضعف، همته تضعف، التزاماته الاجتماعية تزيد، فيصبح شعوره بأن الزمن يلح عليه كبير، لكنه لا يستطيع أن يؤدي كثيرا من الأعمال، مما يمكن للشاب أن يقوم به، والمجال للاستدراك موجود، لكن فرق بين أن يستثمر الانسان عمره في أول الوقت وبين أن يتدارك ذلك في آخره.

 فيقول عليه السلام (من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر…) كيف يغفل الانسان عن نفسه؟ يترك لنفسه والملذات، ماذا تريد نفسه، لذلك في الخبر الشريف ماذا ورد؟ (أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك) إذا جلستَ على مائدة الطعام، نفسك تحب أن تأكل هذا الأكل وهذا الاكل، هذه الحلاوة وتلك الأشياء، لكن العقل لا يسترسل وإنما يزن ما يأكله، بميزان دقيق، ما ينفعه يأكله، بعض الناس يقول “أنا لا أستطيع” لا، تستطيع الكثير.

 ابناء مجتمعنا ما شاء الله، إذا ذهب الى الصالات الرياضية، يسأل مدرب الصالة الرياضية: ما هو الجدول؟ قال أكتب: تترك الشيء الفلاني، وقد ألح عليه أبوه وأمه سنوات ان يترك هذا الشيء، لم يسمع، لكن الآن هو يريد أن يربي عضلاته..!

وتربية العضلات أمر جيد والبدن أمر جيد، لا يعيب الاسلام شيئا من ذلك، ما هو أهم من هذا، اعطه حقه من الاهتمام واعط ذاك حقه من الاهتمام، لماذا كنت تتكرر فيما مضى “لا أستطيع” فإذا بك اليوم تستطيع أن تفعل الأشياء الكثيرة، مأكولات تتركها، سلوكيات تتركها، مما مكان ينصحك به الناصحون، فكنت تتعلل “لا أستطيع” تبين أنك تستطيع.

في شهر رمضان يستطيع الانسان أن يجوع ويعطش، لأنه استقر في وجدانه أن الله سيحاسبه إن لم يفعل وسيثيبه إن فعل، فيجد في نفسه طاقة كبرى، (١٢) ساعة (١٧) ساعة، يكف عن المأكل والمشرب، يعطش، يتعب، مع ذلك، بكل راحة يستريح.

هذه الأيام، أيام موسم الزيارة، تصوروا، بس انتوا [أنتم] افتحوا التلفزيون وشوفوا، انسان يسير من “جنوب العراق” الى “كربلاء” (٦٠٠) كيلو على قدميه، يعتقد هو ليس واجب، ما الذي دفعه الى هذا؟ عشقه، قناعته الداخلية بأن هذا السير يصب في مصلحته، يكمل شخصيته، يقربه الى الله عز وجل، أكثر، وجد عنده من الهمّة ما يفتقده في مواسم أخرى، السبب ما هو؟ هذا حاسب نفسه، فربح، ولم يغفل عن نفسه حتى يخسر.

ويقول عليه السلام (ومن خاف أمِن…) الخوف ليس أمرا مذموما بالمطلق، بل الانسان بقدر ما يعيش حال الراحة والرغبة والأمن مهم، لكن الشعور بالخوف مهم.

لو أن الانسان، بل الكائن الحي، لو لم يشعر بالخوف لأودى بنفسه في الهلاك، قطة تمشي في الشارع، قطة تواجه السيارة، هذه القطه تقف، ما الذي يدفعها الى الوقوف، بل الفرار؟ الخوف، والله عز وجل، إنما غرز فيها هذه الغريزة لتحافظ على نفسها، أنت إذا افتقدت الخوف الموجّه، ستجد نفسك تودي بها في المهالك، فالخوف أمر حميد، لكن إعرف مما تخاف وكيف تترجم خوفك.

قال (ومن خاف أمِن…) الانسان الخائف سيكون عبدا صالحا لله عز وجل، في العلن وفي السر، بالنسبة له لا فرق، لأنه لا يكف عن فعل المعصية إرضاءا للناس، يكف عن فعل المعصية لأن الله يريد منه أن يكف عنها، لأن الله يراقبه، إذا شعر بهذا الشعور، شعوره بالخوف (رأس الحكمة مخافة الله) حين ذاك لا تحتاج لا إلى أحد يحجب عنك الانترنت ولا شرطي يراقبك، أموال الناس ستكون في أمان عندك محفوظه، عرض الناس سيكون محفوظ، لن يفعل الانسان بالتلصص ولا بالسرقة ولا بالخفية، لن ينظر نظرا حراما ولن يأكل مالا حراما ولن يغش أحدا، لأن الله لا تخفى عليه خافية، لأنه قرأ في كتاب الله {يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} و قرأ في القرآن { مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً}.

فالإنسان إذا لم يخف من الله عزوجل، لن يأمن، طبعا وهؤلاء الذين لا يخافون الله، تجد كثيرا منهم، بل أكثرهم جبناء جداً أمام الناس، بس [فقط] تقول له في شرطي، بس تقول له في غرامة، يكف، الله سبحانه وتعالى، يقول لا تحتاج أنت كعاقل أن نقول لك غرامة، نحن نعدك بالجنة ونخوّفك بالنار.

اليهود في زمن النبي -كما يحكي القرآن- كانوا يفترون على الله ويقولون {لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} وفي آية أخرى {مَعْدُودَاتٍ} بلحاظين مختلفين، كيف يعني؟ بسيط، أولا لن تمسنا إلّا في الظاهر، شوية، حرق بسيط وهي أيام، يفاجئهم الله عز وجل، يقول {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أين تصدرون، وتظنون أن الله عزوجل، سيثيبك ثوابا بسيطا في يوم، يوم الآخرة ليس كأيام الدنيا، لا في نعيمه ولا في جحيمه.

قال (ومن خاف أمِن ومن اعتبر أبصر…) الاعتبار ناشئ من هذا الخوف، من هذا الاتعاظ، روح الاتعاظ إذا وجدت عند الانسان، تولّد لديه بصيرة وإذا تولّد لديه البصيرة، يقرأ التاريخ بوعي، لا تمر عليه الأكاذيب والتلبيسات، يعرف الحق وأهله والباطل وأهله، يعرف طريق الحق ويقرأ ليعرفه، حتى يسلكه ويتعرف على الباطل حتى يتجنبه، لأنه اعتبر وأبصر.

يقولوا (ومن أبصرا فَهِم…) لا يقف عندك قشور العلم وإنما يغوص في أغواره، صار عند فهم وإدراك (ومن فهِم علم…) فالعلم بهذا التعريف، ليس هو ما يحفظه الناس، مما يكررونه.

يقول أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه (العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلّا ارتحل) العلم له ظاهر وله باطن، الظاهر هو هذه الكلمات والمفردات التي نصوغ بها الأصول العلمية والقواعد العلمية، لكنها قد تكشف عن مضمون وقد لا تكشف عن مضمون، إن لم تكشف عن هذا المضمون، سيرحل جوهر العلم وباطنه وسيبقى عند الانسان هذه الكلمات التي لا تقدم ولا تؤخر، بل ستكون وبالا عليه.

ثم يقول عليه أفضل الصلاة والسلام (وصديق الجاهل في تعب…) الانسان إذا كان يعيش في بيئة جاهلة، والجهل لا يعني الأميه وعدم القراءة والكتابة، لا، الجاهل هو الانسان الذي لا يعرف ما له وما عليه، فقد تجد إنسانا أميّا، كما كان كثير من الصالحين عبر التاريخ، أميين، لا يعرفون القراءة والكتابة، لكن الله عز وجل، آتاهم البصيرة، هؤلاء ليسوا جهّالا.

لاحظوا الجهّال، الجهال مثل الذين اختارهم “موسى” عليه أفضل الصلاة والسلام، اختار قومه {سَبْعِينَ رَجُلا} يعني من “بني إسرائيل” انتقى “موسى” مو [ليس] شخص عادي “موسى” كليم الله انتقى هؤلاء السبعين، يعني النخبة، يعني علية القوم، والعادة علية القوم، في الغالب أما متعلمون أو أهل تجربة وكذا، ومع ذلك، ماذا قالوا؟ قالوا {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} يأتيهم من الله عزوجل فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} هذا طلب؟! ينتقيكم “موسى” من أجل مناجاة الله عز وجل، تقولون {أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} نزلت بهم الصاعقة، ماذا قال “موسى” {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا}.

وأيضا لما أمرهم بذبح البقرة {قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الإنسان المستهزئ جاهل، حتى لو تعلم، “موسى” يتعوذ أن يكون من الجاهلين.

فليست القراءة والكتابة، وإنما الجهل فقدان الحكمة، الجهل يقابله السفه، ويقابله العلم الحقيقي الذي ذكرنا قبل قليل.

ثم يقول عليه أفضل الصلاة والسلام، يقول (وإذا صادقت جاهلا يتعبك…) لأنك تريد أن تنتقل إلى مرتبة عالية فهذا يجرك إلى الأسفل، تريد أن تتحسن أحوالك وأحواله، فإذا به يجرك الى أسفل، الزوج قد يفعل هذا في حق الزوجة والزوجة في حق الزوج، الأولاد في حق الأب، الأب في حق الأولاد، لذلك الله سبحانه وتعالى، ماذا يقول؟ يقول {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} يعني فليعظ  كل واحد من الأسرة أفراد البقية، الكل يمارس هذا الدور {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}.

 ثم يقول عليه السلام (وأفضل المال ما وُقي به العِرض..) مالُك إذا آتاك الله عز وجل، من المال، اجعل مالك سببا لحفظ عِرضك، أي سمعتك بين الناس، لا تجعل من الناس يشيرون إليك بالبنان، فلان متمول لكنه بخيل، شحيح، في حين أن الناس يرتاحون يقولون والله هذا من المحسنين، هذا وجيهٌ محسن، لأنه ينفق، طبعا ليس مطلوبا من الانسان أن ينفق كل ماله، منهيٌ عنه شرعا، لكن الانسان إذا أدّى ما أوجب الله عز وجل عليه وأضاف إلى ذلك استجابة كريمة، لما أمر الله عز وجل به من الإنفاق، في دائرتك القريبة، والدائرة القريبة أولى من الدائرة البعيدة، المهم أن يكون مالُك الجسر الذي يؤدي بك الى الجنة، لأن مالك لن يذهب معك إلى القبر، وقد لا يكون ورثتك أهلا للمسؤولية، فيما تركته لهم من مال، قدم لنفسك بين يدي مصيرك ما يجعلك من المحسنين عند الله، فإن الله عز وجل {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.

ثم يقول عليه السلام (وأفضل العقل معرفة الانسان نفسه) أفضل الناس من يعرف نفسه، يعرف لما خلقه الله، ما هي إمكاناته التي آتاه الله عز وجل، إياها، حتى لا يسير عمر مديد من الزمن، هل تعرف ما هي قدراتك؟ كأنك فاجأته بالسؤال، كيف يعني كيف قدراتي، كل انسان آتاه الله عز وجل قدرات وقدرات كبيرة.

قد تكون ذاكرتك ضعيفة، لكن خطك جميل، قد يكون خطك سيئ، لكن بصيرتك وإدراكك عالي، قد تكون ضعيفا في كل هذا، لكن أخلاقك حسنة، قد يكون كل هذا مفقود عندك، لكن بدنك قوي، المهم أن الله عز وجل، لم يستلب من الناس جميعا كل شيء، كل إنسان عنده قدرة على أن يستثمر وضعه على أفضل ما يكون، لا تحاكي غيرك بطريق بليدة.

يسوقون ويروجون للناس نماذج، فتجد هذا الشاب وتلك الفتاه يقلد ذلك الممثل وذلك الفنان المعروف، مثلا في لبس معين وتسريحة معينة، إذا سألتَ أهل الاختصاص، في الغالب يقول لك هذه الكرفتة تريد تلبس الكرفتة أو عباءه وصاية، هل هناك تناسب في الألوان أو لا يوجد تناسب في الألوان؟ نفس الشيء.

بعض التسريحات تصلح للشعر المنسدل وبعض التسريحات تصلح للشعر المنفوش وبعض التسريحات تصلح لصاحب الراس المدور وبعض التسريحات تصلح للإنسان الطويل والقصير، هذا “مع الخيل يا شقرا” روجوا لهذا، ولا يسأل الآخرين، مثلا، هل هذه التسريحة، هل هذا اللباس، هل هذا الشكل مقبول أو غير مقبول؟!

يفرض على الناس فرضا، المهم أن الناس يمشون، ولعل هذا الانسان الذي لبس لونين في حذائين كان مشتبها، غلطانا، لكن الناس ثنوا، ما دام مشهورا، لا، أكيد ثمة سر وراء أن يلبس لونا ولونا، ويصير موضة! هذا لم يعرف نفسه.

الإمام يقول (وأفضل العقل معرفه الانسان نفسه…) حتى يضع نفسه في الموضع المناسب، الانسان إذا لم يعرف نفسه، قد يبذل جهدا في مجال ليس هو مجال اختصاصه، وبالتالي، لن ينجح فيه، لن ينجح.

كنتُ اذكر لبعض المؤمنين -يوم أمس لما كنا نأتي للمسجد- أعرف واحدا ذهب به أهله مع جماعة الى “النجف الأشرف” لطلب العلم ليخدمهم، فرجعوا، هو العالم وهم لم يتعلموا.

ذهب ليخدمهم، فصار هو العالم، لكنهم لم يعرفوا أنفسهم، طبعا لما ذهبوا به ليخدمهم، يعني بالتأكيد قدراته حسب الظاهر أقل، لكن هو عرف قدرات نفسه، فرجع عالما ورجعوا ليسوا علماء، فالإنسان إذا عرف نفسه يعتبر نفسه نعمه.

(وأفضل العقل معرفة الانسان نفسه والمؤمن إذا غضب…) وهذا مطلب نهائي وأخير (والمؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق..) ولذلك، فلنؤدب أنفسنا أخواني المؤمنين وأخواتي المؤمنات، اضبط أعصابك.

بعض الناس، إذا غضب خرج من دائرة الايمان، الخلاف بسيط بينه وبين زوجته أو بينه وبين واحد من أصدقائه، لكنه متى ما غضب، خلاص، لا يوجد معيار أخلاقي ولا فقهي ولا شرعي يُراعى، يستبيح كل المحرمات، لأنه غضب، لا، لا، المؤمن عنده ميزان، والمؤمن إنما يُعرف إيمانه في مثل هذه الحالات، حالات الشدة.

(والمؤمن إذا غضب لم يخرجه غضبه عن حق وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل) أيضا نفس الشيء، لا يغض بصره، إذا شاهد خطأ من ولده وتعامل مع هذا الخطأ مثل ما يتعامل مع الخطأ في أولاد الناس، مو أولاد الناس يكبّر القضية وفي أولاده قال: يا يا جماعه لا تكبرون المسألة، مسألة بسيطة وجاهل..!

بعد [أيضا] ولد الناس “جاهل” ليش [لماذا] ابنك جاهل وهكذا.

(وإذا رضي لم يدخله رضاه في باطل وإذا قدر لم يأخذ أكثر من حقه) إذا آتاك الله عز وجل، القدرة في بيتك، في عملك، في أي دائرة من الدوائر، التي تكون مشتغلا فيها، حذار أن تتجاوز على حقوق الآخرين، مثل ما إنك لا ترغب ولا ترضى أن يسيء إليك أحد، ماديا ولا معنويا (أحب لأخيك ما تحب لنفسك).

هذه بعض قواعد الحكمة التي ذكرها “الإمام الرضا” لو أننا وفقنا الله عز وجل، وباب التوفيق مفتوح، لمن بذل الجهد وسعى، سنكون من أهل الحكمة حينذاك سنقترب إلى الله عز وجل، أكثر ونبتعد عن الأذى، العاجل والآجل، أكثر فأكثر.

أسال الله عز وجل، أن نكون وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى