حديث الجمعة

حديث الجمعة .. من الکمالياتِ إلى الضرورياتِ .. 19-8-1445هـ

من الکمالياتِ إلى الضرورياتِ

19/8/1445هـ

 

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ، وإن من التقوى أن نقدِّمَ الضرورياتِ على الكمالياتِ.

فماذا نعني بالضرورياتِ؟ وماذا نعني بالكمالياتِ؟

وما أهميةُ أن نميزَ بينهما؟

وما علاقةُ ذلك بالتقوى؟!

أسئلةٌ يثيرها الناسُ، أو تساؤلاتٌ تخطر في أذهانِهم، قد تبدو سهلةً لبعضِهم، وقد تبدو عسيرةً على آخَرين! والذي لا شك فيه أن مَن يراها سهلةً نظريّاً، فهو لا يشك أن الأمرَ ليس كذلك عمليّاً.

ولنسعَ إلى الوقوفِ على إجابةِ كلِّ واحدٍ من هذه الأسئلةِ والتساؤلاتِ، فنقول:

أما السؤالُ، أو التساؤلُ الأولُ، فإن الفرقَ بين الضرورياتِ والكمالياتِ، هو أن الضرورياتِ هي ما لا يَستغني عنه الإنسانُ في تأمينِ احتياجاتِهِ اللازمةِ لمعاشِهِ أو معادِهِ.

وأما الكمالياتُ، فهي ما تكون نافعةً لكنها لا تُعد ضروريةً.

ولا بد من إلفاتِ النظرِ إلى أن الناسَ ليسوا سواءً في تمييزِ الضروريِّ من الكماليِّ، فما يكون ضروريّاً عند فريقٍ قد يكون كماليّاً عند فريقٍ آخرَ، وما يكون كماليّاً عند فريقٍ قد يكون ضروريّاً عند فريقٍ آخرَ.

ومنشأ هذا التفاوتُ هو مقدارُ ما يملكه الناسُ من المعرفةِ، ومصدرُها.

فالمؤمنون باللهِ لهم – في ذلك – نظرةٌ تختلف عن نظرةِ غيرِ المؤمنين، ونجد في هذا الوسطِ وذاك تبايناً بين الشديدِ في إيمانِهِ باللهِ، والمتوسطِ، والخفيفِ، والأمرُ نفسُهُ جارٍ في غيرِ المؤمنين، فإن أنظارَهم ليست موحدةً في ذلك.

وقد نبَّهَنا اللهُ تعالى في كتابِهِ إلى هذا الفرقِ الفارقِ بين الناسِ، حيث يقول {أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْباب‏} [الزمر : 9].

فإن أولي الألبابِ هم الذين يفعَّلون عقولَهم ولا يعطلونها، لذلك فإنهم يسعَون ويجدُّون في أن يعلموا حتى لا يختلطَ عليهم الكماليُّ بالضروريِّ، فضلاً عن المهمِّ وغيرِ المهمِّ، ويعملون وفقاً لِما توصلوا إليه من علمٍ نافعٍ، فيقنتون للهِ تعالى، ويسجدون له، ويقومون بين يديه؛ حذرَ الآخرةِ، ورجاءً لرحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

وأما غيرُ أولي الألبابِ، فتشغلهم أموالُهم وأهلوهم، ويستولي عليهم حبُّ الدنيا، فلا يعلمون، وهذه آفةٌ، ولا يعملون وهذه آفةٌ ثانيةٌ، فيفدون على اللهِ تعالى – بعد اخترامِ آجالِهم – وهم خلوٌ من العملِ الصالحِ، {حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُون‏ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى‏ يَوْمِ يُبْعَثُون}‏ [المؤمنون : 99 – 100].

وهذا ما بعث اللهُ تعالى أنبياءَهَ (عليهم السلام)، وختمهم بسيدِهم رسولِ اللهِ محمدٍ (صلى الله عليه وآله وسلم)، بقرآنٍ عربيٍّ مبينٍ، مبشرين ومنذرين، من أجلِهِ، أي من أجلِ إيقافِ الناسِ على حقيقةِ أن مصيرَ مَن علم وعمل، ليس كمصيرِ مَن لم يعلم ولم يعمل، أو علم ولم يعمل، فالأولُ في الجنةِ، والثاني في النارِ، فقال جلَّ وعلا {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى‏ وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فيهِ فَريقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَريقٌ فِي السَّعيرِ} [الشورى : 7].

وأما التفاوتُ بين زمَرِ الفريقين، قال تعالى {وَسيقَ الَّذينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدين}  [الزمر : 73].‏

وقال عن الأخرى {وَسيقَ الَّذينَ كَفَرُوا إِلى‏ جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى‏ وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرين‏} [الزمر : 71].

والتعبيرُ بالزُّمرِ في الفريقين يُرشد إلى تفاوتِ المنتمين إلى كلِّ فريقٍ في علموه وما عملوا به، فكلما كان الإنسانُ أعلمَ بما يجب – أو ينبغي – العلمُ به، وأعملَ به، وكلما كان أعلمَ بما يجب – أو ينبغي – أن ينتهيَ عنه، كان أتقى، وكلما كان أتقى كان أقربَ إلى اللهِ، وأكرمَ عنده.

فأصحابُ الجنةِ متفاوتون فيها، ففيهم الفاضلُ، وفيهم المفضولُ.

وفي المقابلِ، فإن الإنسانَ كلما كان أجهلَ بما يجب – أو ينبغي – أن يعلمَ به، كلما كان أبعدَ عن العملِ به، وكلما كان كذلك كان أبعدَ عن اللهِ، وأقلَّ شأناً عنده.

فأصحابُ النارِ فيهم مَن هو سيءُ الحالِ، وفيهم مَن هو الأسوأُ حالاً.

وأما السؤالُ، أوالتساؤلُ الثاني، وهو الذي عن أهميةِ التمييزِ بين الضروريِّ والكماليِّ؟

فلا بد – أيها المؤمنون والمؤمناتُ – أن نقولَ: إن مَن لم يميز بينهما فإنه سيُبتلَى – من حيث يعلم أو لا يعلم، ومن حيث يريد أو لا يريد – بتقديمِ غيرِ النافعِ على النافعِ، بل الضارِّ على الضروريِّ!

وهذا ما لا يفعله عاقلٌ، ولا يوقع نفسَهُ فيه إلا سفيهٌ.

قال تعالى {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحين} [البقرة: 130]‏.

فالراغبُ عن ملةِ إبراهيمَ (عليه السلام) التوحيديةِ، والزاهدُ في مَن اصطفاه اللهُ في الدنيا، وهو في الآخرةِ من الصالحين، هو راغبٌ عن اصطفاءِ اللهِ، وعما أعده للصالحين من عبادِهِ، وهل السفهُ الا هذا؟!

وأما السؤالُ، أو التساؤلُ الثالثُ، وهو علاقةُ ذلك بالتقوى.

فإن من المعلومِ أن الناسَ في التقوى مراتبُ، فإن فيهم مَن بلغ فيها حدَّ العصمةِ، وهم الأنبياءُ والأئمةُ (عليهم السلام)، وفيهم – أي في الناسِ – الأمثلُ والأمثلُ، وفيهم مَن تقلصت التقوى لديهم حتى حُرِم من الإيمانِ باللهِ ورسالاتِهِ ورسلِهِ فنظم نفسَهُ في دائرةِ الكفرِ.

فالقرآنُ الكريمُ الذي وصفه اللهُ تعالى بقولِهِ {هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ ..} [آل‏عمران : 138]، أعقبه بوصفِهِ بأنه {.. هُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقين‏} [آل‏عمران : 138]، والسرُّ في ذلك يكمن في أن القرآنَ أنزل من أجلِ الناسِ جميعاً، وقد صيغ بما تقوم الحجةُ على جميعِ الناسِ أنه من عند اللهِ، وأنه الكتابُ الذي {.. لا رَيْبَ فِيْهِ} [البقرة: 2]، لكنه بيَّن – في الوقتِ نفسِهِ -‏ أن مَن سيهتدي به، ويتعظ بما فيه، إنما هو خصوصُ مَن توفر فيه التقوى – وهي الحرصُ الأكيد على جلبِ النفعِ ودفعِ الضرِّ – ولو في حدِّها الأدنى، فهؤلاء هم المتقون الذي يحظَون بهدايةِ القرآنِ كلٌّ بما يتناسب وتقواه، فمنهم مَن يؤمن به ويستثمره بالحدِّ الذي يكون مسلماً، ومنهم مَن يتجاوز ذلك إلى حدِّ الدخولِ في حريمِ الإيمانِ، ومنهم مَن يجتهد في ذلك فيترقى في مراتبِ الإيمانِ إلى ما هو أعلى من ذلك.

وعلى هذا يُحمل ما جاء في الخبرِ عن رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أن حملةَ القرآنِ هم “عرفاءُ أهلِ الجنةِ”؛ بقرينةِ ما جاء في الخبرِ نفسِهِ أن المجتهدين – أي المجدِّين في العملِ بتعاليمِ الدينِ والشريعةِ – هم “قُوَّادُ أهلِ الجنةِ” أي قادتُها، وأن الرسلَ (عليهم السلام) “سادةُ أهلِ الجنةِ”[1].

فالتقوى ليست مرتبةً واحدةً، فمَن سعى في تقديمِ الضرورياتِ على الكمالياتِ، والأهمِّ على المهمِّ، هو التقيُّ، وكلما اشتد حرصُهُ على ذلك كان أتقى، وصار مؤهلاً لأن يكونَ أتقى عند اللهِ.

ومن الأمثلةِ الحيةِ على مراعاةِ الضررويِّ وتقديمِهِ على الكماليِّ، أبو ذرٍّ (رضوان الله عليه)،  الذي أخرج الحاكمُ في مستدركه على الصحيحِين، بسندِهِ، عن عبدِ الرحمنَ بنِ غَنمٍ، قال “كنتُ مع أبي الدرداءِ، فجاء رجلٌ من قِبلِ المدينةِ، فسأله، فأخبره أن أبا ذرٍّ مسيَّرٌ إلى الربذةِ، فقال أبو الدرداءِ: إنا للهِ وإنا إليه راجعون! لو أن أبا ذرٍّ قطع لي عضواً أو يداً ما هجنتُهُ، بعد ما سمعتُ النبيَّ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم يقول: ما أظلت الخضراءُ، ولا أقلَّت الغبراءُ، من رجلٍ أصدقَ ‌لهجةً ‌من ‌أبي ‌ذرٍّ”[2].

فإن هذا الصحابيَّ الأصدقَ لهجةً من غيرِهِ، قام بما وجب عليه القيامُ به، وعمل بما علم أن اللهَ تعالى يريده منه، والتزم الصدقَ الذي مدحه به رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، وتحمل في سبيلِ ذلك النفيَ والتغريبَ، ولم يساوم على دينِهِ، فقدَّم الضروريَّ مع عسرِهِ على الكماليِّ مع يسرِهِ، وأما الضرريُّ فقد نبذه ونابذ أهلَهُ.

فتقوى اللهِ – أيها المؤمنون والمؤمنات – تقضي بأن تعرفَ الضروريَ وتعملَ به، وان تعرفَ الكماليَّ وتضعَهُ في الموضعِ المناسبِ له، وأن تعرفَ الأهمَّ فتقدمَهُ على غيرِهِ وإن كان مهمّاً، وأما غيرُ المهمِّ فحذارِ! ثم حذارِ! ثم حذارِ! أن تجهلَهُ، فضلاً عن أن تشتغلَ به، ناهيك عن أن تُغرقَ نفسَك فيه.

وما ذكرناه كلَّهُ إنما هو مصداقٌ للإحسانِ، وإن اللهَ تعالى يقول ﴿.. وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ ‌الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].

وإن سيدَنا ومولانا أميرَ المؤمنين عليّاً (عليه السلام) يعلمنا درساً في أهميةِ الضروريِّ على الكماليِّ، وتجنبِ المضرِّ، وذلك في قولِهِ – لَما عوتب على تصييرِهِ الناسَ أسوةً في العطاءِ من غيرِ تفضيلٍ إلى السابقاتِ والشرفِ – قال “أتأمرونِّي أن أطلبَ النصرَ بالجورِ في مَن وُلِّيتُ عليه! واللهِ! لا أطورُ به ما سمر سميرٌ، وما أمَّ نجمٌ في السماءِ نجماً! لو كان المالُ لي لسويتُ بينهم، فكيف وإنما المالُ مالُ اللهِ لهم”.

ثم قال (عليه السلام):

“ألا وإن إعطاءَ المالِ في غيرِ حقِّهِ تبذيرٌ وإسرافٌ، وهو يرفع صاحبَهُ في    الدنيا ويضعُهُ في الآخرةِ، ويكرمه في الناسِ ويهينه عند اللهِ، ولم يضع امرؤٌ مالَهُ في غيرِ حقِّهِ، وعند غيرِ أهلِهِ، إلا حرَمه اللهُ شكرَهم وكان لغيرِهِ ودُّهم، فإن زلت به النعلُ يوماً فاحتاج إلى معونتِهم فشرُّ خليلٍ، وألأمُ خَدِين”[3].

نسأل اللهَ تعالى أن نكونَ وإياكم ممن يوفَّق إلى ذلك، وأن نكونَ ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنَهُ إنه وليُّ ذلك والقادرُ عليه.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا، وارحم موتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

 

 

[1] الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329هـ)، الكافي ‏/، ط دار الحديث، 1429هـ، كتاب ، باب فضل حامل القرآن، الحديث (11).

[2] المستدرك على الصحيحين 6/ 589، ط المنهاج القويم، برقم (5561).

[3] نهج البلاغة 285 – 286، الخطبة (126)، ت الصالح – الحسون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى