حديث الجمعة

حديث الجمعة .. النبيُّ محمد (ص) مربياً (4) .. 16-5-1445هـ

النبيُّ محمد (ص) مربياً (4)

16/5/1445هـ

 

بسم اللهِ الرحمنِ الرحيمِ

الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ الخلقِ وأشرفِ الأنبياءِ والمرسلين محمدٍ بنِ عبدِ اللهِ وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

ربِّ اشرح لي صدري، ويسِّر لي أمري، واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي.

اللهم اجعل أعمالَنا خالصةً لوجهِك الكريمِ.

عبادَ اللهِ! أوصيكم – ونفسي – بتقوى اللهِ، فإن العاقبةَ للمتقين، وقد قال اللهُ تعالى ﴿.. إِنَّ ‌أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [الحجرات: 13].

وفي حديثِنا الرابعِ عن النبيِّ محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) مربياً، نتناول – بإيجازٍ شديدٍ – مسألةَ العلمِ والتعلمِ، وكيف كان تعاملُهُ (صلى الله عليه وآله وسلم) معها، وكيف حضَّ الناسَ عليها، فنقول:

أولاً: إن مما اشتهر بين علماءِ الأمةِ أن أولَ ما نزل من القرآنِ هو قولُ اللهِ تعالى ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ ‌وَرَبُّكَ ‌الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1-5].

فالبارئُ عزَّ وجلَّ يأمر بالقراءةِ، ويمتنُّ على الإنسانِ بالتعليمِ. قال أحدُ علمائِنا – تعليقاً على الآياتِ -“ولقد أوضحت الآياتُ المذكورةُ برنامجَ النبيِّ صلى اللهُ عليه وآله وسلم إجمالاً، وبيّنت وبشكلٍ واضحٍ أن أساسَ الدينِ يقوم على القراءةِ والكتابةِ، والعلمِ والمعرفةِ، واستخدامِ القلمِ”[1].

فدينُ الإسلامِ – إذن – هو دينُ العلمِ، وداعيةُ النهضةِ، وما نراه خلافَ ذلك من تخلفٍ في هذا الصعيدِ فإنه لا يعود إلى الإسلامِ كما يزعم خصومُهُ، أو يظنه بعضُ الغافلين، وإنما هو – كما قال العالم المذكورُ – “لأجلِ ابتعادِهم عن تعاليمِ الإسلامِ، التي حضَّت على طلبِ العلمِ واكتسابِ المعارفِ، حتى أن مادةَ العلمِ ذُكِرت في القرآنِ الكريمِ (ضمنَ صيغٍ مختلفةٍ) ما يقارب (780) مرةً، وهذا يدلُّ على أن الحضارةَ الإسلاميةَ مبنيةٌ على العلمِ والقراءةِ والاستعانةِ بالقلمِ.

وما أصدق قولَ الشاعرِ معروفٍ الرصافيِّ – وهو يدرأُ عن الإسلامِ هذه التهمةَ -:

يقولون في الإسلامِ ظلماً بأنّه *** يصدُّ بنيه عن سبيلِ التقدُّمِ

فإنّ كان ذا حقّاً فكيف تقدّمتْ *** أوائلُهُ في عصرِهِ المُتقدِّمِ

وإنْ كان ذنبُ المسلمِ اليومَ جهلَهُ *** فماذا على الإسلامِ من جهلِ مسلمِ”[2]

 

ثانياً: إن وضعَ الأمةِ التي بُعِث رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) منها وفيها، وإليها أولاً، كان وضعاً مأساويّاً في العلمِ والعملِ.

أما على مستوى العلمِ، فلم يكن يَعرف عامتُهم القراءةَ والكتابةَ، حتى قال البلاذريُّ أن مَن كان يُحسن الكتابةَ من قريشٍ لَما بُعِث رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يتجاوزوا سبعةَ عشرَ شخصاً[3].

فإذا كان هذا هو حالَ مكةَ، وهي أقدسُ مدنِ العربِ، وأغناها، فكيف بغيرِها من البلدانِ؟!

وأما على مستوى العملِ، والسلوكِ، فقد وصف اللهُ تعالى ذلك في كتابِهِ، وفي غيرِ موضعٍ، بالجاهليةِ.

وقد روى ابنُ هشامٍ في سيرتِهِ، عن أمِّ سلمةَ زوجِ النبيِّ (صلى الله عليه وآله وسلم)، أن الصحابيَّ الجليلَ جعفراً الطيارَ خاطب النجاشيَّ؛ ردّاً على موفَدي قريشٍ إليه، بقولِهِ:

“أيها الملكُ، كُنّا قوماً أهلَ جاهِليَّةٍ، نعبدُ الأصنامَ، ونأكلُ الميتةَ، ونأتي الفواحِشَ، ونقطعُ الأرحامَ، ونسيءُ الجوارَ، ويأكلُ القويُّ منَّا الضعيفَ، فكنّا على ذلك، حتّى بعث اللهُ إلينا رسولاً منَّا نعرف نسبَهُ وصدقَهُ وأمانَتَهُ وعفافَهُ، فدعانا إلى اللهِ لنوحِّدَهُ ونعبدَهُ، ونخلعَ ما كنا نعبدُ نحنُ وآباؤنا من دونه؛ من الحجارةِ والأوثانِ، وأمرَنا بصدقِ الحديثِ، وأداءِ الأمانةِ، وصلةِ الرحمِ، وحُسْنِ الجوارِ، والكفِّ عن المحارمِ والدماءِ، ونَهانا عن الفواحشِ وقولِ الزُورِ، وأكلِ مالِ اليتيمِ، وقذفِ المحصَناتِ، وأمَرنا أنْ نَعبُدَ اللهَ وحدَهُ لا نشركُ به شيئاً، وأمَرَنا بالصلاةِ والزكاةِ والصيامِ

قالت [أي أمَّ سلمةَ راويةَ الحادثة]ِ:

فعدّد عليه أمورَ الإسلامِ، حتى قال:

وصدّقناهُ، وآمَنَّا به، واتَّبْعناهُ على ما جاء به من اللهِ، فعبدنا اللهَ وحدَه، فلم نشرك به شيئاً، وحرَّمنا ما حُرِّمَ علينا، وأحللنا ما أُحِلَّ لنا، فَعدا علينا قومُنا فَعذَّبُونا وفتنونا عن دينِنا ليردُّونا إلى عبادةِ الأوثانِ من عِبادةِ اللهِ تعالى، وأن نَسْتَحِلَّ ما كنا نَستحِلُّ من الخبائثِ.

فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين دينِنا، خرجنا إلى بلادِك، واخترناك على مَن سواك، ورغبنا في جوارِك، ورجونا أن لا نُظلَمَ عندك أيها الملكُ ..”[4].

ثالثاً: أن رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما بُعث من اللهِ تعالى بتعليمِ الناسِ وتزكيتِهم، وهذا يعني النهوضَ بواقعِهم علماً وعملاً.

أما على مستوى العلمِ والتنظيرِ، فقد استفاض عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أقوالٌ كثيرةٌ، حضَّ فيها على التعلمِ، والتفقهِ، ببيانِ فرضيتِهِ ومحبةِ اللهِ لطلابِهِ، نجد ذلك في ما رواه الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال “طلبُ‏ العلمِ‏ فريضةٌ على كلِّ مسلمٍ. ألا إن اللهَ يحب بغاةَ العلمِ”[5].

وأخرى ببيانِ أن العيشَ إنما يستحق بالعلمِ، كما نجده في ما رواه الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال “لا خيرَ في العيشِ إلا لرجلين عالمٍ مطاعٍ، أو مستمعٍ واعٍ”[6].

وثالثةً، في بيانِ مكانةِ العالمِ والمتعلمِ، وما لهما من الفضلِ، كما نجد في ما رواه الشيخُ الكلينيُّ، بسندِهِ، أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) قال “مَن سلك طريقاً يطلب فيه علماً سلك اللهُ به طريقاً إلى الجنةِ، وإن الملائكةَ لتضعُ أجنحتَها لطالبِ العلمِ رضا به. وإنه يستغفرُ لطالبِ العلمِ مَن في السماءِ ومَن في الأرضِ حتى الحوتُ في البحرِ. وفضلُ العالمِ على العابدِ كفضلِ القمرِ على سائرِ النجومِ ليلةَ البدرِ. وإن العلماءَ ورثةُ الأنبياءِ. إن الأنبياءَ لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، ولكن ورَّثوا العلمَ، فمَن أخذ منه أخذ بحظٍ وافرٍ”[7].

وأما على مستوى العملِ والتطبيقِ، فقد كان (صلى الله عليه وآله وسلم) حريصاً – أشدَّ الحرصِ – على تقويمِ سلوكِ المسلمين وفقاً لِما دعاهم إليه من علمٍ، فلم يكن يرضى لأحدِهم أن يسيرَ خلافَ ذلك.

ولنقف على نماذجَ من ذلك:

النموذج الأول: أن اللهَ تعالى أدَّب المسلمين على التبينِ، وتقديمِ المصالحِ العامةِ على الخاصةِ، فلا يجوز للمقاتلِ أن يسارعَ إلى القتلِ ما لم يكن هناك مبررٌ ومشروعيةٌ، فقال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ‌وَلَا ‌تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا﴾ [النساء: 94].

وأخرج أحمدُ في مسندِهِ، عن ابنِ عباسٍ، قال “مَرَّ رجلٌ من بني سُلَيم بنفرٍ من أَصحابِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم وهو يسوقُ غنماً له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلم علينا إلا ليَتَعَوَّذَ منَّا، فعمدوا إليه فقتلوه، وأتوا بغنمِهِ النبىَّ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم، فنزلت هذه الآيةُ”[8].

وفي هذا السياقِ، لام رسولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم) أسامةَ بنِ زيدٍ على تسرعِهِ في قتلِ مَن لا يستحق القتلَ.

فقد أخرج مسلمٌ في صحيحِهِ، عن أسامةَ، قال “بعثنا رسولُ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم في سريةٍ، فصبَّحنا الحُرَقاتِ من جهينةَ، فأدركتُ رجلاً فقال: لا إلهَ إلا اللهُ، فطعنتُهُ فوقع في نفسي من ذلك، فذكرتُهُ للنبيِّ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم، فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم: أقال: لا إلهَ إلا اللهُ، وقتلتَهُ؟! قال: قلت: يا رسولَ اللهِ! إنما قالها خوفاً من السلاحِ، قال: أفلا ‌شققتَ عن قلبِهِ حتى تعلمَ أقالها أم لا؟! فما زال يكررها عليَّ حتى تمنيتُ أني أسلمتُ يومئذٍ”[9].

النموذج الثاني: أن حدودَ اللهِ يجب مراعاتُها، ولا يجوز التعدي عليها. قال الله تعالى ﴿.. وَمَنْ يَتَعَدَّ ‌حُدُودَ ‌اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [البقرة: 229]. ومن صنوفِ العدوانِ على حدودِ اللهِ أن تطبقَ بانتقائيةٍ.

وفي هذا البابِ، أخرج البخاريُّ في صحيحِهِ، “أن قريشاً أهمَّتهم المرأةُ المخزوميةُ التي سرقت، فقالوا: ومَن يكلم فيها رسولَ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم؟ ومَن يجترئ عليه إلا ‌أسامةَ حبَّ رسولِ اللهِ صلى الله عليه [وآله] وسلم، فكلم رسولَ اللهِ (صلى الله عليه وآله وسلم)، فقال: أتشفع في ‌حدٍّ ‌من ‌حدودِ اللهِ؟! ثم قام فخطب قال: “يا أيها الناسُ! إنما ضلَّ مَن قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريفُ تركوه، وإذا سرق الضعيفُ فيهم أقاموا عليه الحدَّ ..”[10].

النموذج الثالث: أن من آدابِ الصلاةِ أن لا يطيلَ إمامُ الجماعةِ فيها؛ مراعاةً للضعيفِ وذي الحاجةِ.

فقد أخرج البخاريُّ عن عمرو بن دينارٍ، عن جابرٍ بنِ عبدِ اللهِ، أن معاذَ بنَ جبلٍ “كان يصلي مع النبيِّ صلى اللهُ عليه [وآله] وسلم، ثم يأتي قومَهُ فيصلي بهم الصلاةَ، فقرأ بهم البقرةَ، قال: فتجوَّز رجلٌ فصلى صلاةً خفيفةً، فبلغ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافقٌ! فبلغ ذلك الرجلَ. فأتى النبيَّ صلى الله عليه [وآله] وسلم فقال: يا رسولَ اللهِ! إنا قومٌ نعمل بأيدينا ونسقي بنواضحِنا، وإن معاذاً صلى بنا البارحةَ فقرأ البقرةَ، فتجوَّزت، فزعم أني منافقٌ! فقال النبيُّ صلى الله عليه [وآله] وسلم: “يا معاذُ! ‌أفتانٌ ‌أنت؟! ثلاثاً – اقرأ: {والشمس وضحاها}، و {سبح اسم ربك الأعلى}، ونحوها”[11].

وفقنا اللهُ وإياكم لأن نكونَ من المتعلمين العاملين، ونعوذ به أن نكونَ ممن يخالف عملُهُ علمَهُ، ونسأله عزَّ وجلَّ أن يجعلَنا وإياكم من الذين آمنوا واتقوا والذين هم محسنون.

***

اللهم صلِّ على محمدٍ وآلِ محمدٍ.

اللهم كن لوليك الحجةِ بنِ الحسنِ، في هذه الساعةِ، وفي كلِّ ساعةٍ، وليّاً، وحافظاً، وقائداً، وناصراً، ودليلاً، وعيناً؛ حتى تسكنَهُ أرضَك طوعا، وتمتعَهُ فيها طويلاً.

اللهم انصر الإسلامَ والمسلمين، واخذل الكفارَ والمنافقين.

اللهم مَن أرادنا بسوءٍ فأرده، ومَن كادنا فكِده.

اللهم اشفِ مرضانا وجرحانا، وارحم شهداءَنا وموتانا، وأغنِ فقراءَنا، وأصلِح ما فسَد من أمرِ دينِنا ودنيانا، ولا تُخرجنا من الدنيا حتى ترضى عنا، إنك على كلِّ شيءٍ قديرٌ.

وصلى اللهُ على سيدِنا ونبيِّنا محمدٍ، وعلى آلِهِ الطيبين الطاهرين.

 

[1] سيد المرسلين للشيخ جعفر السبحاني 1/322.

[2] منية الطالبين في تفسير القرآن المبين 30/497، تفسير سورة العلق، الآيات 3 – 5.

[3] فتوح البلدان، ص453.

[4] سيرة ابن هشام ت السقا 1/ 336.

[5] أصول الكافي ‏1 /30، باب فرض العلم ووجوب طلبه والحث عليه، الحديث (1).

[6] م ن 33، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء، الحديث (7).

[7] م ن 34، باب ثواب العالم والمتعلم، الحديث (1).

[8] مسند أحمد 2/ 489، ت أحمد شاكر، برقم (2023).

[9] صحيح مسلم 1/ 67 ط التركية، كتاب الإيمان، ‌‌باب تحريم قتل الكافر بعد أن قال لا إله إلا الله.

[10] صحيح البخاري 8/ 442، ط التأصيل، باب كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان.

[11] م ن 75، باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأولا أو جاهلا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى