حديث الجمعة

«استقمتَ فاستقم»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «استقمتَ فاستقم» يوم الجمعة ٩ شوال ١٤٤٢هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.
رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.
عباد الله، أوصيكم ونفسي بتقوى الله.
عنوان حديثنا سيكون «استقمتَ فاستقم» بمناسبة نهاية شهر رمضان ودخولنا موسماً جديداً، ما الذي يُفترض أن نفعل في هذا الموسم الى أن يكتب الله عز وجل لنا ولكم جولةً اخرى مع الروح والنفس والعقل في شهر رمضان الآتي، سائلين الله عز وجل أن نكون وإياكم ممن يحظى بالتشرف بصيامه وقيامه، لكن قبل حديثي أُشير الى مسائل ثلاث:
المسألة الأولى:
أننا نحمد الله عز وجل على أن أوقف العدوان الصهيوني على أهلنا في فلسطين الذين كانوا ولا يزالون يعانون من عدوان شرس يُقر بهِ القاصي و الداني، العالم الاسلامي والعالم العربي، الشعبي والرسمي كله، يُقر بأن هذا الكيان الغاصب يمارس عدوانا مستمرا، دون أي مبرر شرعي وقانوني وأخلاقي وسياسي، لكن الفارق بحمد الله عز وجل مع كثرة الضحايا -الذين نسأل الله عز وجل لهم علو الدرجة وأن يشافي الجرحى- هو أن هذا الكيان كان يضرب ولا يُضرب، كان يُهين ولا يُهان، يعتدي ولا ينال شيئا من الأذى، لكنه شيئاً فشيئاً صار يواجه طرفا مكنّه الله عز وجل من أن يرد إذا اعتُديَ عليه، الله عز وجل لا يحب المعتدين لكنه في الوقت نفسه أمر المعتدى عليهم بأن يجهزوا أنفسهم ليرُدوا العدوان على المعتدي عدوانه وهذا ما نراه جلياً ونسأل الله عز وجل أن يُمكن هؤلاء المعتدى عليهم بأن يأخذوا حقوقهم كاملةً غير منقوصة، خصوصاً مع هذا الطرف الظالم الذي يدعمه عالمٌ ظالم والذي يُقرهُ على ظلمه كل من يشاركه في هذا العدوان، نسأل الله عز وجل ان يعينهم وأن يثبتهم وينصرهم نصراً عزيزاً.
المسألة الثانية:
هي أنه السفر كان ممنوعاً نتيجة الجائحة وكان قراراً حكيماً من الدولة، لكنه فُسحَ أخيراً والمأمول من الذين يزمعون أن يسافروا أن يراعو كل ما كانوا يراعونه من الاشتراطات والاحترازات الطبية حفاظاً على أنفسهم وعلى الآخرين.
فمثلا ينبغي للجميع، بل يلزمهم ان يتجنبوا الذهاب الى المناطق الموبوءة وإذا اضطروا للذهاب لأسبابٍ مشروعة ينبغي أن يأخُذوا كامل احترازاتهم حتى تكون الإنجازات التي نالها الناس نتيجة هذه الاحترازات لا نخسرها، نسأل الله عز وجل أن يزيل عنا وعنكم هذا الوباء والبلاء.
المسألة الثالثة:
هو أننا دخلنا في عطلة صيفية وهذه العطلة الصيفية طويلة ينبغي لأولياء الأمور آباء وأُمهات وتلاميذ صغارا وكبارا أن يُخططوا كيف يُحسِنوا الاستثمار لهذه العطلة الصيفية خصوصاً وأن السنة الفائتة وما قبلها، كانت الدراسة يشوبها الكثير من الضرر والتصدع نتيجة الإجراءات والاحترازات والدراسة عن بعد، والدراسة عن بعد ليست كالدراسة عن قرب الكل يلمس هذا الأثر والضرر، فإذا أضفنا الى ذلك عطلة تمتد الى أربعة أشهر أو تزيد أو تنقص قليلا، سيكون هذا له أثرٌ سلبيٌ بالغ على الطلاب والأهالي إن لم يتداركوا ذلك.
كيف نتداركه؟ لكل أحد أن يجتهد في أن يبذل كل ما يستطيع من التفكير والتنظير في كيف يعوض ما فات أولاده من المنافع وكيف يستثمر هذه العطلة الصيفية والباب مفتوح لكل أحد أن يجتهد في هذا المجال.

أما حديثنا:
هل يُؤمر المستقيم بأن يستقيم؟
الجواب: نعم، إذا عرفنا أن الأشياء والأمور والحالات على نوعين، هناك حالات ثابتة وهناك حالات يقال لها في علم المنطق “مشككة” أو ما يُعرف في اللغة العامة “الأمور نسبية” الالوان مثلا.
السواد ليس على درجة واحدة، هناك أسود وهناك ما هو أشد سواداً وهناك ما هو أكثر اشتدادا في السواد، كذلك مسألة الاستقامة، الاستقامة كمنظور ومفهوم قرآني ليس في مرتبة واحده، يؤدبنا الله عز وجل في القرآن الكريم في مواضع عديده ونحن المسلمون ونحن المؤمنون أن نسألهُ عز وجل ان يهدينا، فكيف يطلب المهتدي هداية إن لم يكن للهداية مراتب؟ بلغت مرتبة وتسأل الله عزوجل مرتبةً أخرى.
أُشير الى أن هذه المفردة في لغة العرب وفي لغة القرآن خاصة، تحمل هذه المضامين.

النموذج الأول:
ما جاء في سورة “النساء” من قول الله عز وجل عن الإيمان، الإيمان أيضاً من المراتب التشكيكية، يقول عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزَلَ مِن قَبْلُ ۚ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} خطاب لمن؟
للذين آمنوا بما أمرهم الله عز وجل؟ أن يؤمنوا، كيف يخاطَبُ المؤمن بأن يؤمن، أليس هذا تحصيلاً للحاصل، العُقلاء يقولون إذا حصل الشيء لا يُطلب تحصيله مرة أُخرى إنما يُطلب من الإنسان أن يحصل شيئاً لم ينله بعد، فإذا طُلب المؤمن أن يؤمن يعني أن المطلوب من هذا المؤمن أن يحقق مرتبة أُخرى من الإيمان، مرتبة أكثر كمالاً وأكثر نمواً وتطوراً وتغيراً. هذا في الإيمان.
الهداية كذلك، يقول الله عز وجل في سورة محمد صلى الله عليه وآله، يقول {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} هؤلاء مهتدون، لكن الله عز وجل أكرمهم بأن زادهم هدايةً فوق هدايتهم وهدى فوق هداهم، لأن الهدى كما الإيمان، له أبعاد متشعبة، أبعاد بعيدة، قد تحقق إيماناً في جانب، لكنك تفتقد الإيمان في جانب وكذلك تحقق الهدى في جانب وتفتقده في جانبٍ آخر أو مرتبة وبعدها مرتبة أُخرى أو شكلاً من أشكال الإيمان والهداية تطلب إيماناً آخر وهدايةً أُخرى.
ما يتعلق بحديثنا من الاستقامة يدخل تحت هذا العنوان، تحت باب التشكيك والنسبية، ومن فوائد هذا ألا يركن الإنسان و لا يصيبه الارتخاء والسكون والهدوء، لأنك حتى اذا أَمنت واهتديت واستقمت، هذا لا يعني أن إيمانك وهدايتك واستقامتك وكل الحالات الايجابية ستبقى، عوامل الإضرار المقصودة من الخصوم وغير المقصودة، نتيجة الكسل، نتيجة القصور، نتيجة التغافل أو الغفلة أو غير ذلك، من العوامل، قد تجعل من إيمانك وهدايتك واستقامتك وكل حالاتك الايجابية تضمر وتضعف، لذلك فإن المطلوب أن يتعاهد الإنسان كمالاته فيطورها أو على أقل التقادير أن يحافظ عليها حتى لا تتآكل منه.
يقول عز وجل في سورة “هود” يخاطب النبي صلى الله عليه وآله {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصير} النبي صلى الله عليه وآله مستقيم والمسلمون أيضا هؤلاء الذين خوطبوا بهذه الآية المفروض أنهم استقاموا، كيف يكونون قد استقاموا؟ أن ينتقل المستقيم أو الإنسان من الكفر الى الإيمان، يعني أنه استقام، النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان بأمر من الله عز وجل يستزيده من العلم حيث يقول {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} كيف يخاطب مثل هذا، كيف يخاطب المسلمون بأن يستقيموا وهم المؤمنون والمسلمون؟ لأن الإيمان والإسلام والهداية، كل ذلك معرض لأن يتآكل فينهدم.
فالمطلوب هو أن يُحصن الإنسان نفسه، حتى لا يتعرض إيمانه وكماله الى التصدع والتضرع الم يقل الله عز وجل {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} لماذا؟ {ترهبون به عدو الله وعدوكم} العدو إذا شعر -العدو هنا أياً كان، إبليس عدو، المحتلون أعداء، الظالمون أعداء- هؤلاء متى يشعرون بأنهم يستطيعون أن يتقدموا خطوة الى الأمام؟ إذا شعروا بأن الطرف الآخر ضعيف وإن لم يكن ضعيفا دفعوه إلى أن يكون ضعيفا، وإن لم يتمكنوا من ذلك استضعفوه، يعني يتعاملون معه معاملة الضعيف، فالمطلوب من المؤمن ما هو؟ أن يستقوي بالله ويستعين بالله ويتوكل على الله، بأن يطلب الأسباب، كل الأسباب، العلم له أسباب، العمل له أسباب، الإيمان له أسباب والاستقامة كذلك لها أسباب.
لذلك يقول الله عز وجل مخاطبا النبي في موضع آخر، كما في سورة “الشورى” يقول {فَلِذَٰلِكَ فَادْعُ ۖ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} يعني أُمرت أن تستقيم يا رسول الله، أُمرتم أيها المسلمون أن تستقيموا، المطلوب أن تستجيبوا لذلك، هذه محطة.

المحطة التالية:
هي أن الفواعل والمؤثرات في الإنسان في الانتقال به من طور الى طور ومن حال الى حال، ثلاثة، الفاعل الأول الدوافع والمحركات، الإنسان ما لم يتوفر على هذه الدوافع والمحركات، كما هو الحال في السيارات، السيارة لا تتحرك بنفسها، هناك دوافع، هناك محركات، الوقود، قائد السيارة، التفات قائد السيارة، تحريكه للسيارة بشكل جيد.
كذلك الإنسان، الله سبحانه وتعالى آتاك، يدك هذه لا تتحرك بنفسها وإنما يتولى تحريكها أنت، الله عز وجل جعلها للأصحاء من الناس -من الله على الجميع بالشفاء والعافية- جعلها قابلة للحركة، لكن شرط أن تُحرَك، من الذي يحركها؟ الانسان، كيف يحركها؟ الانسان بإرادته، هل الانسان إرادته تتجه الى توجيه الأوامر لليد أن تتحرك بشكل عفوي؟ لا، هناك سلسلة من المفاهيم الذهنية في ذهنه يجد أن في هذا الاتجاه ضررا، يحب أن يدفع الضرر عن نفسه، نتيجة هذه القناعة يتولد لديه رغبة نفسية، هذه الرغبة النفسية تحرك الإرادة، إرادته توجّه الأمر الى يده فيحركها لدفع هذا الضرر أو لجلب ذلك النفع، فهذه الدوافع يجب أن يُلتفت إليها.
القرآن الكريم أفاض فيما يتعلق بالقلب والنفس والأحاديث الداخلية كل هذا في هذا الاتجاه، مثلا الله سبحانه وتعالى يسوق لنا قصة المسلمين في معركة بدر وقد أنجز الله عز وجل لهم وقد كانوا أذلّه كما قال القرآن الكريم أذلّه يعني عددا قليلا محدودا إمكاناتهم ضعيفة، لكن الله عز وجل إذا تعلقت نصرته أن ينصر المؤمنين كما فعل ويفعل دائما، يقول عزوجل {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْر الْمُؤْمِنِينَ} المطلوب من المؤمنين دائما وأبدا، إذا انتصروا بالله، أن يحافظوا على نصرهم، أن يكونوا ربانيا، يعني أن تبقى دوافعهم ومحركاتهم لله {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
إذا كان قتالك في سبيل الله لا يعنيك أبدا أن تجني الغنائم والأنفال المادية، حصلت عليها أو لم تحصل، هذا لا يعنيك من قريب أو من بعيد، لأنك إنما تطلب بقتالك وجه الله تطلب الانتصار لدين الله وللقيم الحقّة، حصلت على أمور ماديه أو لم تحصل، إن حصلت فبها ونعمت وإن لم تحصل ليس أمرًا مهماً، الله عز وجل في آية أخرى يقول {وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا ۖ نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} النصر بالنسبة إلى الله ليس أمراً مهماً، الفتح بالنسبة إلى الله ليس أمراً مهماً، المطلوب من الله عزوجل من الناس هو أن يكونوا مؤمنين، بقوا على قيد الحياة أو توفّاهم، عند الله عز وجل {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} هذه جانب.
الجانب الثاني الذي هو مهم، وهذا عامل نفسي دوافع ومحركات نفسية، لكن هناك عامل آخر هو الغايات والمقاصد.
هل الانسان يتحرك كما قلنا بشكل عفوي؟
الجواب: كلا، هناك غايات هناك مقاصد، أهداف ينشدها هذا الانسان، ما الذي يفرق بين انسانين، كالذي يحصل في المواجهة بين الظالم والمظلوم، أليس الظالم يقتل والمظلوم يقتل؟ نعم هذا يقتل وهذا يقتل، لكن الفرق أن دوافع الظالم عدوانية ودوافع المظلوم حقانية، من حق المظلوم أن يقتل، يقول الله عز وجل {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} ما دام مظلوماً وكان هدفه من قتاله ردّ الظلم ورفع المظلومية عن نفسه يكون قتاله مشروعاً وإن وقع سفك دمٍ في الطرف الآخر، لكن الطرف الاخر ليس من حقه أن يأتي من بلدٍ بعيد ويهجّر أبناء بلد، مستقرين في أوطانهم، ثم يقول هذا من حقي، في كل المعايير هذا يعتبر عدوانا.
الله سبحانه وتعالى يتعامل مع هذا أنه ظالم معتدي، لأن مقاصده وغاياته ليست مشروعة، في حين أن الطرف الآخر لما كانت غاياته ومقاصده نتيجة المفاهيم التي استقرت في ذهنه مشروعة، كان قتاله مشروعا وحركته مشروعة، وقِس على هذا في كل شيء، طلاب الاستقامة، المفروض أن دوافعهم ومحركاتهم محقّة، قلوبهم سليمة، عقولهم أيضاً نظيفة، يريدون الحق، لأنه الحق ويرفضون الباطل لأنه باطل. الغاية، ماهي الغاية بالنسبة للإنسان المستقيم وطالب الثبات على الاستقامة؟ الله سبحانه وتعالى {قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وليس في سبيل الطاغوت، بل في سبيل الله سبحانه وتعالى وحركتك أيضا في كل مفردات حياتك أيها المؤمن والمستقيم المفروض أن تحافظ على هذه النية، إذا كان هذا عملك، صرت ربانياً، النبي صلى الله عليه وآله بماذا يوصي أباذر؟”ليكن لك في كل عمل نية”.
النية هي روح العمل، وبهذا يمتاز الصالحون عن غير الصالحين، هذا يبني مستشفى، وبناء المستشفى أمر مطلوب، والآخر يبني مستشفى، لكن الله عز وجل يتقبل من هذا ولا يتقبل من هذا، لماذا؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} غير المتقين مهما فعلوا من الأعمال التي تبدو للناس أنها صالحة هي ليست كذلك، لأن الغرض منها والمقصد والغاية منها ليست أمرا نبيلا ولا أمرا مشروعاً، كالمجرمين الذين يوزعون مثلا المخدرات بين الناس، هو للوهلة الأولى وللمرة الأولى قد يتبرع مجاناً لمن يريد أن يتعاطى هذا المخدر، هل يُحمد على فعله هذا أنه اعطى مجاناً من غير مال؟ لا، هو في الحقيقة إنما يستدرج هذا المغرر به من أجل أن يوقعه في شِراكه، فيدفع إليه في المرة الأولى مجاناً ليبتزه في الثانية والثالثة والرابعة حتى يحوله من دائرة الصلاح إلى دائرة الإجرام.
الأمر الثالث:
هو أن الانسان لا يكفيه أن تكون عنده دوافع ولا أن يكون عنده دوافع ومحركات ولا كذلك أن يكون عنده غايات، بل لابد أن يترجم هذا وهذا، كيف يترجمه؟ بجوارحه، فالجوارح هي التي تعبر عما في الجوانح، جوانحك يعني عقلك، يعني أن الإنسان إذا صلح عقله رُجيَ أن يستقيم في فِعله، أما إذا انحرف في فكره، فالغالب أن المنحرف في فكره لا يُرجى منه عمل صالح فالمطلوب أن يصلح العقل وتصلح النفس حتى يُؤمَل أن يكون فعل هذا الإنسان عملاً صالحاً.

وهذا ما يفتح لنا باب المحطة الأخيرة:
هي أهمية القلب والروح، شهر رمضان الذي كلفنا الله عز وجل بأن نصومه وأن تعبد له فيه بشكل مضاعف عن غيره من الأيام والأشهر، إنما كان السبب فيه لأن الله عز وجل يريد أن يطهر هذا الإنسان في ظاهره وباطنه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} التقوى هل هي فعل يد الانسان؟ لا، ما يفعله الانسان بيده وبجوارحه هذا ظاهر التقوى، لكن التقوى كما يقول النبي صلى الله عليه وآله ويشير إلى صدره الشريف يقول “التقوى هاهنا التقوى هاهنا التقوى هاهنا”.
لاحظوا ما جاء في الأحاديث الشريفة عن الصوم، لأن الصوم له مقام كبير، الصلاة قد يرائي فيها الإنسان، أن يصلي رجاء أن يراه الناس يصلي، فيقولوا فُلان من المصلين، لكن الصيام لن تفعله بجوارحك، الناس لا يعرفون أنك صائم أو غير صائم، إلا أن تقول أنت بلسانك أنا صائم، أما لو أنك ذهبت إلى أحد من الناس دون أن تقول إنك صائم هو لا يعرف أنك صائم، وقد يقول أحد أن الانسان قد يبدو ذلك على شفتيه ولسانه، فإذا بدا عليهما الجفاف عُرف أنه صائم، قد يكون مريض ظهر عليه جفاف الشفتين واللسان دون أن نعرف أنه صائم، متى نعرف؟ إذا قال هو عن نفسه أنا صائم. فالإنسان التقي أيسر عليه، بل أقرب الأفعال أو أبعدها عن الرياء، الصيام، فقد ورد في الحديث الشريف (الصوم لي وأنا أُجزى به أو وأنا أجزي به) كلا القراءتين صحيح ولكل واحد منهما معنى نبيل ودقيق.
الحديث الشريف يقول (إنما الأعمال بالنيات) العمل في ظاهره قد يتماثل قد كما أشرنا، لكن فرق كبير كبير كبير بين أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه على الذي جاء في الأحاديث انه (برز الإيمان كله إلى الشرك كله) (ضربة عليٍ يوم الخندق تعدل أعمال الثقلين) لما؟ الإخلاص، لأن “عليٍّا” ذلك البطل المغوار الذي ما كان يحتاج إلى مؤونة زائدة حتى يفصل جسد الإنسان إلى نصفين، تلكّأ في قتل “عمر بن عبد ود” فلمّا سُئل وعلى خلاف عادته، قيل له أبطأت يا “علي” في قتل عمر؟ قال لأنه شتمني أو شتم أبي، فغضبت، فما أردت أن أقتله لغضب نفسي، أردت أن أقتله لوجه الله.
لذلك، هذا العمل يُكافئ الله عز وجل عليه، هذا درس من الدروس التي ينبغي أن نتلقاها.
سحرة فرعون، هل طال بهم المكث زمانيا، حتى ينتقلوا من عالم الكفر والسحر مظهر من مظاهر الكفر وحساب السحرة حساب الكفار، لماذا جعلهم الله عز وجل شهداء ولم يركعوا لله ركعة؟
السبب هو أن إيمانهم كان صادقاً، لم يغرّهم جبروت فرعون ولا استبداد فرعون قالوا له {اقضِ ما انت قاضٍ} ختم الله عز وجل لهم بالشهادة وسُجِّلوا في القرآن الكريم، كتابا يتلى آناء الليل وأطراف النهار، فلا يحتاج الإنسان إلى عمل كثير حتى يكون من المخلصين، المهم أن يكون عمله قد أتقنه (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يُتقنه).
هذا الإتقان في العمل أمر مطلوب، الله عز وجل يقول {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} طبعا هذا لا يمكن أن يحصل إلّا من أهل التفقه والمعرفة ومجاهدة النفس بشكل مستمر.
يقول الله عز وجل في سورة “آل عمران” السحرة نموذج صالح، فلنقرأ في القرآن الكريم تهديداً وتحذيراً وإشارةً إلى ما يمكن أن يحصل من الأمة المرحومة، يقول عز وجل {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} متى حصل، هذه الآية نزلت بأية مناسبة؟ في “معركة أُحد” هناك من انقلب على عقبيه وهو من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لولا أن الله عز وجل تداركهم وآتاهم فرصاً أُخرى استثمرها بعضهم وفوّتها بعضٌ آخر.
فالمطلوب من المستقيم أن يستقيم وأن يستعين بالله عز وجل على صلاح نفسه {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ(*) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} والقلب السليم ليس أمراً يحكم فيه الناس، لا يتأتّى للناس أن يقولوا فلانٌ قلبه سليم وفلان ليس له قلبٌ سليم، إنما يعرف بعضنا بعضاً في الظاهر، فالقرآن يقول {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} هذا بينك وبين الله سبحانه وتعالى، المأمول من الإنسان الذي نال شيئا من الاستقامة -بتوفيق الله عز وجل- أن يؤكد استعانته به سبحانه وتعالى حتى يبقى مستقيماً.
نسأل الله عز وجل أن نكون وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.
اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.
اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى