حديث الجمعة

حديث الجمعة : «الحكمة وصفاً للخالق والمخلوق – ٢»

نص الخطبة التي ألقاها سماحة العلاّمة السيد حسن النمر الموسوي بعنوان «الحكمة وصفاً للخالق والمخلوق – ٢» يوم الجمعة ٩ صفر ١٤٤٣هجري في جامع الحمزة بن عبدالمطلب بمدينة سيهات.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي.

عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله.

فإنه عز وجل، يقول {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}.

تقدم هنا بعض الحديث عن الحكمة باعتبارها وصفا للخالق ومطلبا أن يوصف بها المخلوق.

لكن هناك فرقا بين أن يوصف الله بالحكمة وبين أن يوصف عباده بها، الله عز وجل، فإن اتصاف الله عز وجل، بالحكمة لا يزول، من لوازم ذاته سبحانه وتعالى العلم ومن لوازم ذاته سبحانه وتعالى الكمال المطلق، لذلك لا بد أن يكون حكيما.

بينما الانسان {أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} فالجانب العلمي في الحكمة يكتسب والجانب العملي يُكتسب، لذلك، يُلام الكبير على الوقوع في الخطأ بما لا يلام عليه الصغير، لأن صغر السن قد يشكل عذرا، لهذا الصغير، فيقال هو جاهل، حتى الكبير، لو أن إنسانا في بواكير شبابه واقع منه فعل غير محمود، بماذا يعتذر أهله؟ يقولون هو جاهل، جاهل يعني أن هذا الذي صدر منه طيش، ما كان ينبغي، لكن اعذروه، لأنه للتو بعد لم تكتمل رجولته.

الله سبحانه وتعالى، حكمته مطلقة، لا يصدر من الله عز وجل، قول ولا فعل إلّا وهو محكم في أعلى درجات الإحكام والإتقان والكمال، ما الذي مطلوب منا نحن البشر؟ أن نتخلّق بأخلاق الله، يعني أن نتحلى بالحكمة.

كيف يتأتى للإنسان أن يكون حكيما؟

ذكرنا فيما مضى، أن هناك ثلاث ركائز، يجب على الإنسان، إذا أراد أن يتصف بالحكمة أو أن يوصف فعل ما بالحكمة، أن تكون هذه الركائز قد توفرت فيه.

فالفعل قد يكون محكما، لكن هذا لا يكفي لأن يوصف الفعل في مجمله بالحكمة، بل لا بد أن يكون فاعله قد فعل هذا الفعل الحكيم والمتقن عن نيّة حسنة، نيّة محمودة وما يقصده منه هو غرض نبيل.

أما إذا اختل هذا، أي النيّة، أو اختل ذاك، أي الغاية، حتى لو كان الفعل حكيما، صاحبه يُتهم، لذلك لو أن عدوك قام بفعل غير متوقع منه، العداوة تقتضي النيّة السيئة من هذا الطرف لهذا الطرف، قد تكون مشروعة، العداوة المشروعة، في الحرب ما الذي يفعله المتخاصمون والمتحاربون؟ كل طرف يريد أن يلحق الضرر بالطرف الآخر، لكن الفرق أين يكمن؟ يكمن في أن المحق دواعيه مشروعة في إلحاق الضرر، يدافع عن نفسه أو يدافع عن مظلوم، أما الظالم، فإنه إقدامه على القتال ليس مشروعا وغايته الإضرار وإلّا فإن الفعل الصادر من هذا الطرف ومن هذا الطرف قد يتشابهان في الشكل.

كذلك عدوك، لو قام بأمر ظاهره حسن، أنت لا تستقبله كما لو صدر هذا الفعل ممن تعرف مودته ومحبته لك، الأول الذي هو العدو تتهمه، تقول لعل له غرضا غير نبيل، هو يريد أن يوقعني في هذه الحفرة، حتى يحقق غرضا أنا لا أعرفه.

لذلك، هذا الفعل لا يوصف بأنه حكمة، فإذن وصف الحكمة لابد أن يلاحظ فيه هذه الزوايا الثلاث.

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل، بعد أن تعرفنا على أصل الحكمة وأهميتها ومفهومها انها الفعل المتقن، طبعا لمّا يقولون “الحكمة وضع الشيء في موضعه” هذا يعني توفر هذه الركائز الثلاث.

الانسان الجاهل، الجاهل تماما بأي شيء، هل يتوقع منه أن يحسن الفعل؟ جاهل هو لا يعرف يخبز، لا يعرف الحدادة، لا يعرف النجارة، لا يعرف الميكانيكا، لا يعرف علم الفقه، لا يعرف علم العقائد، فإذا خاض في واحد من هذه الأمور أو غيرها، مما لا يعرفه ستجده يصيب حينا، لكنه يخطئ في أحيانا كثيرة، لأنه يفتقد عنصر العلم. فحينما يقال أو تعرّف الحكمة بأنها “وضع الشيء في موضعه” الوضع يعني القدرة، الانسان العاجز لا يستطيع أن يضع، سواءا كان الوضع باليد، بالرجل، بالراس، بالقدم، عاجز، مشلول من الحركة، لا يستطيع أن يضع وأن يكون هذا الوضع في محله، يعني أن تعرف الوضع وأن تعرف المحل، هل هذا هو المحل المناسب أو ليس هو المحل المناسب.

الانسان صاحب النية الحسنة، يريد أن يفعل الفعل الحسن، لكنه لا يعرف موضعه، إذا كان لا يعرف موضعه، يقتل عليا بدل أن يقتل خصم علي، يبحث عن العدو الخطأ، العدو الخطأ ويصادق ويصاحب الصديق الخطأ، الذي لا ينبغي مصادقته.

فإذن، حتى يكون الانسان قادرا على وضع الشيء في موضعه، العلم في أي حقل من الحقول، في أي حقل من الحقول، ولا يستثنى من ذلك شيء، لا يجوز لإحد، لا يجوز ليس بحكم الشرع، قبل الشرع بحكم العقل، لا يجوز لإحد أن يتدخل في شيء لا يحسنه، الأطباء يسلّمون بهذا في تخصصهم، المهندسون -كل في تخصصه- كل واحد منهم يسلم بهذا، الخبازون يجب أن يحترم تخصصهم، الحدادون يجب أن يحترم تخصصهم الفكر حقل من حقول النشاط الإنساني.

درجةُ الإضاءة، يعني الآن الذين يشتغلون بالتصوير، حتى الإضاءة تتقدم درجة يؤثر، تتأخر درجة يؤثر، تعلو تؤثر، هذا فن، هذا تخصص يُدرس، تؤخذ فيه الشهادات، مثل هذه التخصصات البسيطة قد يصرف الإنسان عُمراً طويلاً فيه، حتى يتمكن يُقال مبدع في ماذا؟ في التصوير.

إذا أردنا أن نتكلم بلغةٍ دينية، نحن نُريد أن نُخطط لأن نسعد بين يدي الله عز وجل، في جنة عرضها السماوات والأرض، هذا ليس تصويرا وليس حدادة وليس نجارة وليس خبازة، الله سبحانه وتعالى يقول {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} و يقول على الأحكام الشرعية {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ۖ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} التحليل والتحريم والجزم بأن هذا يحل وأن هذا لا يحل، هذا ليس من شؤون الناس، هذا من شأن الله، حتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليس له أن يحكم من عنده وإنما وصفه الله عز وجل بقوله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (*) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أين عقلي وعقلك من عقل رسول الله رسول الله؟

رسول الله أكمل البشر، أعقل البشر، أذكى البشر، الذي اصطفاه الله عز وجل ممن سبق وممن لحق من البشر، مع ذلك، الله سبحانه وتعالى، لم يأذن له في أن يحكم إلّا في الإطار الذي وضعه الله عز وجل، له ورسمه له، وكذلك مَن بعده.

من بابٍ أولى، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، حكمه أعلى، يعني أزيد من حكم رسول الله مطلوب منه أن يلتزم.

إذن، ماذا أدبنا الله عز وجل، في القرآن الكريم عن النبي قال {لا تُقدّموا بَين يَدي اللهِ وَرَسُولِه} في الشأن الديني، لا نقترح ولا نتقدم ولا نعارض ولا نخاصم، إذا صدر من الله عز وجل، حكم {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} {الظَّالِمُونَ} {الْفَاسِقُونَ} لماذا عز وجل، سبحانه وتعالى، في هذا الكتاب الكريم أكد على هذه النقاط؟

لأن هذا مظنة الوقوع في الناس، الإنسان ينتفخ شوية، يتعلم، ففي كثير من الأحيان يقول أنا متعلم..! أي ميخالف[لا بأس]، متعلم، على غيرك لكن مو[ليس] على الله، الله سبحانه وتعالى، لا تصف نفسك في محضره أنك دكتور وبروفيسور وشيخ وعلامة وآية الله، لا، لا، الله يبقى هو الله وأنت؟ أنت عبد.

لذلك، المجتهد عندنا، ليس له أن يُعمل فكره هو وينتج حكماً من عنده، الاجتهاد ما هو؟ بذل الجهد في استنباط الحكم الشرعي من أدلته، هناك أدلة، يُفترض بالمجتهد المُعتبر أن يُراجع هذه الأدلة ويُفتي على ضوئها.

لذلك، إذا أردت أن تستعلم حكما شرعيا، تستطيع أن تسأل الفقيه عن تفاصيل الحكم الشرعي وتقول له أين هو دليلك؟ إن كنت من أهل الفهم والاستيعاب، سيقول لك دليلي الآية الفلانية والرواية الفلانية.

قال” لماذا -مثلا- نسألهم ولا يُجيبوننا دائماً؟ مثل ما تسأل أنت الأطباء، البروفيسور الدقيق المتخصص إذا سألته عن الأشياء التخصصية، بماذا يُجيبك؟ قال لا أستطيع أن أشرح لك، لماذا لا يستطيع أن يشرح لك؟ لأنك لست مؤهلا، لست مؤهلاً لأن يشرح لك هذه التفاصيل، إلّا أن تطوي المسار العلمي الذي طواه هو، فتتمكن من استيعاب ما أستوعبه، هذا ليس عيباً فيك، وإنما هناك شروط موضوعية يجب أن يتوفر عليها.

لنفترض، أحدهم قد يأتي ويقول “هذه الرواية التي تُذكر في المنبر الفلاني والمكان الفلاني والكتاب الفلاني، مثلاً هي رواية ليست تامة في سندها، كيف يعتمدون عليها”؟!

ومن قال لك أن الفقيه يعتمد فقط على هذه الرواية؟!

الخطيب أو الكاتب أو المؤلف أو العالم، في مقام الوعظ والإرشاد، من حقهِ أن يستفيد من أي رواية موجودة في القرآن الكريم، لأن دِلالتها بالنسبةِ للعامةِ من الناس أبسط، أوضح، لا يختار الدليل الأعمق لأن شرحه يحتاج الى تفصيلٍ طويل، فينتقي ذاك النص الذي دلالته أقرب لهذا العامي، مع أنها من حيث السند، ليست هي التي اعتمد عليها، اعتمد على شيء آخر، لكن مقدمات تقريب مقدمات ذاك الدليل يحتاج الى مقدمات طويلة، الجمهور مثلا ليسوا قادرين على استيعابها فيستبدل، وإلّا ليس هذا هو الذي انتقاه فقط.

لاحظوا ماذا يقول الله عز وجل عن الحكمة، والحكمة مطلب لا يستغني عنه الناس، لاحظوا الثقافات الشعبية عند الأمم كلها، ألا يوجد أمثال وحِكَم؟! شنو الأمثال والحِكَم؟

هي خلاصات، جُمل بسيطة، يختصر فيها المجتمع، قد ينطق بها شخص واحد، لكن هي عصارة تجربة مجتمع.

حينما يقول العرب “كل فتاةٍ  بأبيها معجبة” مَثَل، مَثَل قيل في نثر أو شعر، هذا عُصارة، أن البنت، كل بنت، لأن أباها أقرب الناس إليها، هو من يتولى حمايتها، هو من يتولى تربيتها، فتجد فيه من الكمال ما لا تجده في غيره، قد يكون غير أبيها  أكثر طولاً، أكثر عرضاً، أكثر مالاً، أكثر جاهاً، لكن ذاك الذي أقوى من أبيها لا يعنيه شأنها، ليس هو الذي يُنفق عليها، ليس هو الذي يتولى تربيتها من الناحية العاطفية، فميل هذه الفتاة الى أبيها الذي يتولى هذه الشؤون منها، سيكون أكثر من ميلها الى غيره من الناس، مع أن غيره قد يكون أفضل منها، فقالوا هذا المثل “كل فتاة بأبيها معجبه”.

بعد، مثل آخر، يقولون “القرد في عين أمه غزال” صحيح، الله سبحانه وتعالى، خلق عاطفة الأمومة حتى يستمر التناسل بين الحيوانات، بما فيها الإنسان، لو أن  الأم -أي أم- نُزع منها هذه العاطفة وعممنا هذا النزع لجميع الأمهات، ما [لا]تستطيع البشرية أن تتناسل ولا تستطيع الحيوانات أن تتناسل، ما الذي فعله الله عزوجل، الحكيم ؟! زرع هذه العاطفة المشبوبة من الأم تجاه ولدها، كيف تُعجب هذه الأم بولدها، هي تنظر في ولدها أنه أكمل من غيره، مع أنه مثل ما قلنا أن والد تلك الفتاة ليس بالضرورة هو الأفضل، لكن الله عزوجل، لحكمته، لأداء هذا الدور، يجعل هذه الأم تميل الى ولدها وطفلها كما لو كان أفضل من غيره، لأن هذا الولد يحتاج الى حماية أمه، دون هذا الرابط الوثيق، سيُهمل هذا الولد ويعيش بمثابة اليتيم.

 لذلك الأم تنظر الى ولدها كالغزال، وأين القرد وأين الغزال -من حيث الشكل يفترض- أنت ترى الغزال أجمل، لكن القردة ترى ولدها القرد أفضل من الغزال الذي تراه أنت غزالاً، وهكذا قِس على هذا.

فالأمثال والحكم هي عصارة تجارب المجتمع، قد يكون المثل صحيحا، قد لا يكون صحيحا، قد يكون تطبيقه عاما بمعنى الكلمة، وقد لا يكون كذلك، هذا أمر آخر.

الله سبحانه وتعالى، في التشريعات الدينية والتعاليم الدينية والمعارف الدينية، قال هذا العالم الذي تعيشونه، ليس هو ما يصل إلى مسامعكم فقط، العالم أوسع من هذا بكثير، أوسع مما ترونه بكثير، أوسع مما تتواصلون معه بكثير، حكمك أنت أيها الإنسان محدود، يقول الله عز وجل، حتى الأبصار، نحن نطمئن مثلا بأبصارنا، لكن الله عز وجل في “بدر” ماذا يقول؟ يقول {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ} تصرف في أبصارهم، فصار هذا الطرف يرى ذاك الطرف أنه ضِعفَه في العدد أو ثلاثة أضعاف، كيف؟ لأن الله عز وجل، هو المتحكم، إذا كان هناك مصلحة، إذا كان هناك مصلحة، الله سبحانه وتعالى يقررها، ما ترى أنت أنه صواب، ليس بالضرورة هو الصواب، حكم الله أصوَب، حكم النبي صلى الله عليه وآله، أصوَب.

لذلك، القرآن ماذا يقول؟ يقول {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} قريش ماذا كانوا يقولون؟ يقولون {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} خل نشوف الرجلين، واحد من الرجلين خل [دع] “مسعود الثقفي” من أهل الطائف، غني وثري وعنده بساتين وكذا، قريش كان ميزانها ميزان رأس مالي، برجوازي، اللي عنده فلوس يُحترم، اللي ما عنده فلوس لا يحترم.

هذا “الوليد” اللي كانوا يريدون أن يقول {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يعني إما هذا أو هذا، القرآن بماذا يصف الوليد هذا؟ {عتلٌ} {زنيم} إبن حرام، إبن حرام، القرآن يصفه إبن حرام لا يُعرف أبوه، وقريش كانت تراه، تقول لماذا لم تنزل الرسالة على هذا؟!.

الله يصطفي الرسل من آدم، يعني التحضير لنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، من “آدم” التحضير لكل هؤلاء الأنبياء{تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} يفتخر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أنه ليس في آبائه وأمهاته سفاح، وهؤلاء يقولون رجل من القريتين عظيم، وين وجه العظمة؟! وجه العظمة أن يُعرض عليه الحق فيرده، هذا عظيم؟ إبن حرام لا يشعر بأي خجل.

 طبعا واحد يقول هو لا ذنب له، حتى لو كان لا ذنب له، لكن لا تُجعل النبوة، أطهر مقام، تجعل في مثل هذا، حتى إذا أراد الناس أن يردوه، لو أنه عرض نفسه عليهم، قال “أنا نبي” أول ما يشيرون إليه يقولون إبن حرام.

النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الذي كانوا يعرفونه بـ”الصادق الأمين” أطهرهم جميعاً، أصدقهم جميعاً، أفضلهم جميعاً، لقي من العنت ما لقي، حتى قال (ما أُوذي نبيٌ مثلما أُوذيت).

فإذن، لو كان العتل الزنيم، هو اللي الله سبحانه وتعالى، أرسله، أي نبوة وأي رسالة التي ستستقيم مع مثل هذا؟

فإذن، نحتاج الى أن نتعلم الحكمة أولاً، ونُروض أنفسنا حتى نكتسب القدرة على تطبيق هذه القوانين التي جاءت كمعالم للحكمة.

في سورة “البقرة” يقول عز وجل، في الأمر بالإنفاق يقول {يا أيها الذين آمنوا..} خطاب ليس للكفار، لا، للذين آمنوا، يعني دخلوا في رواق المؤمنين وجماعة المؤمنين، أعلنوا أنهم من المؤمنين، تأتي مرحلة أُخرى من التأديب { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} إذا أردت أن تنفق، كتطبيق في المال وإلّا عنوان الإنفاق في القرآن الكريم، أوسع من المال، لكن في المال يقول {أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الْأَرْضِ} في مقابل ماذا؟ قال {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} الخبيث يعني أن المال الحرام أو لا، الشيء غير الجيد، عندك بضاعه في البيت، في المنزل، لا تستعملها،  فلنتصدق بهذه، قال لا {لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} يقول {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلَّا أَن تُغْمِضُوا فِيهِ}.

لو كان في ذمةِ شخصٍ آخر لك شيء من الدَين وعُرض عليك هذا الذي تريد أن تُنفقه، تقبله؟ تقول لا، ما تقبله، لازم تسجل عليه عيب، تقول فيه كذا، فيه كذا، الذي تُريد أن تُنفقه تريد أن تعطيه لله، صحيح تعطيه تسلمه للفقير، لكن هو يقع في يد الله، قبل أن يقع في يد الفقير، بضاعتك، تجارتك مع الله، كيف يجب أن تكون هذه البضاعة والتجارة مع الله؟ من الطيبات، من الأمور الحسنة.

{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} الحديث عن ماذا؟ عن الإنفاق؟ ما دخل الله عز وجل، يقول {غَنِيٌّ حَمِيدٌ} يقول نعم، لأن التجارة مع الله، صحيح أنت تعطي الفقير، لكن طرف المعاملة هو الله، ما دام الله عز وجل، هو الغني الحميد.

أولاً – فعل الانفاق منك، هذا من توفيق الله لك، فالحمد لهُ قبل أن يكون لك.

ثانياً – أنت تُريد أن تعطي الغني بواسطة هذا الفقير، تعطي الغني ما يُجملك أو ما يسيء اليك؟ لا، ما يجملك، فبالتالي {مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} هذه من وجوه الحكمة.

نجيء، قال ما الذي يجعل الناس لا يُنفقون من الطيبات ويتيممون الخبيث؟ طبق هذه القاعدة، ليس فقط على الإنفاق المالي، حتى على العلاقات الاجتماعية، حتى علاقات الوسائط الاجتماعية التي نقوم بها.

بعض الناس، لنفترض يبادر الى خدمة ذوي الوجاهة والمكانة، لكن إذا جاءه شخصٌ فقير بسيط على قد حاله، لا يجدُ حماساً في تقديم الخدمةِ له، كما يجد الحماسةَ عنده أن يتواصل مع أولئك ويُقدم لهم..!

نفس المشكلة، يقول الله عز وجل {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ} يعدكم، أي يخوّفكم، من الوعد والوعيد.

كلمة “وعد” في اللغة العربية تصلح للاثنين، خلاف “أوعد” أوعد في السلب و”وعد” تصلح لهذا وتصلح لهذا {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيْم} الله سبحانه وتعالى، حينما استقرض الناس لم يستقرضهم، لأنه محتاج، لكن هؤلاء عباده، الفقراء المحتاجون، المساكين، مثلا وذوي الحاجة من أي شيء حتى طلاب العلم أيضا، طالب العلم الذي يريد أن يطلب العلم في الجامعة، في الحوزة، أو يريد أن يسألك سؤالا، لا بأس، فرغ نفسك لتعطيه المادة الصحيحة، إذا كان طالب علم بحق.

قال {وَاللَّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلًا ۗ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ(*)يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} هذا التعليق { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ} نحن في سبيل الحديث عن الانفاق أين دخل الحكمة في هذا؟ نعم، الحكمة في كل مناشط الحياة، أنت تحتاج أن تكون من أهل الحكمة، فتتصرف التصرف الصحيح.

نعم، قد يأتي أحد، يسأل يقول: هل نحن ملزمون بأن ننفق على كل من هب ودب من الناس؟ لا، إذا عرفت هذا الذي يتسول من أنه اتخذ التسول وظيفة، للأسف الشديد، كثير منهم أساؤوا الى شريحة الفقراء والمحتاجين، القرآن يقول عن تلك الفئة الحسنة {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} وهناك كثير من الناس، متى ما رأيته، تعرف أنه جاء يطلب حاجة، ما جاء لا للسلام ولا، جاء ليطلب حاجة.! لأنه لا يرى إلّا في مثل هذا الموقع.

بعد {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} يعني لا يلح بتلك الطريقة الفجة والممجوجة، هؤلاء يسيئون لهؤلاء، لكن هذا لا يعني أن نحرم الفقير وأن نحرم المريض وأن نحرم طالب المعلومة وطالب النصيحة، لا، كل هؤلاء، إذا وجدنا فيهم أرضيه حسنة أو نتعامل معهم في الأصل، الصحة، إلى أن يثبت لنا العكس.

قال {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} هذا هو الخير الكثير.

طبعا الحكمة – سنأتي ان شاء الله على ذكر بعض ملامحها- بعضهم قال القرآن حكمة، وهو كذلك، سنة النبي حكمة، وهي كذلك، طاعة الإمام الذي أمر الله بطاعته، وهي كذلك أيضا من الحكمة، لأنها هي التصرف الصحيح، إذا أردت حكم الله، من أين نأخذ حكم الله؟ ما [لا] نأخذ الحكم من العالم الفاجر وعالم السوء، وإنما نأخذه من الذي صان نفسه وأطاع مولاه وخشي هواه، مثل هؤلاء (فللعوام أن يقلدوه) ليس كل من تصدى يُراجع وليس كل من وصف نفسه بالعلم يُراجع وإنما يختبر حاله، فإذا وجدنا فيه التقى والورع والتثبت، نطمئن إليه، نستفتيه، وكذلك في البيع والتجارة، انت يكفي أن يغشك التاجر والبائع مرة واحدة، حتى تشطب عليه، لا تراجعه مرة أخرى، تقول: فلان خؤون، فلان سارق، غير أمين.

كذلك العالم، يجب أن يكون أمينا، لأن الذي سيحاسبه الله سبحانه وتعالى، والناس أيضا، إن احتاجوا إلى معلومة، إلى تجارة، إلى أي علاقة من العلاقات، لا تسارع في مصاحبه كل أحد، وإنما تخيّر أصدقائك وأصحابك، لأن أصحاب السوء كثيرون، العلاقة تتوسع، في السابق كانت العلاقة المباشرة، اليوم أصحاب السوء قروب في الواتساب، صاحب سوء، هذا القروب الذي لا يتحفظون في نشر كل شيء، ما هب ودب من الأخبار، هذا إذن صاحب سوء.

لذلك، إذا وجدته مجلس سوء لا تسمح لهم أن يجروك في مجلس السوء على أقل تقدير، إن لم يدفعوا بك الى عالم المعصية، دفعوا بك الى عالم تضييع الوقت، و(الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما) عمرك، سيسألك الله سبحانه وتعالى، عنه.

لذلك، نصيحتنا لأبنائنا الشباب، إذا أردتم أن تقدروا قيمة أعماركم، سلوا من هو أكبر سنا منكم.

واحد من علمائنا مرّ على واحد ممن كان معه، فرآه يصلي في عتمه الليل، وقف قليلا الى أن انفتل من صلاته، قال: يا بني أكثر من الصلاة، ستصل إلى سنٍ، تريد أن تصلي، لا تستطيع أن تصلي”.

كثير من الناس، الله سبحانه وتعالى يعطيه نعمة الشباب، نعمه النشاط، نعمة القوة، فإذا طلبت منه جدول أعماله، ماذا يفعل، لا تجد شيئا حميدا، للأسف الشديد، لا كتاب ولا درس ولا معلومة ولا شيء، مضيعه وقت، تضيع أوقات، ديوانيات وجلسات وقراءات، تسأله: تقرأ؟ قال: والله ما عوّدت نفسي على القراءة…!

إذن، هذا الواتساب الذي أنت تطالعه، من أول النهار إلى آخر الليل، هذه شنو[ما هو] مو [أليس] قراءة؟ هذا قراءة.

لكن الفرق، أن هناك من يحسن انتقاء ما يقرأ وهناك من لا يحسن، هناك من ينتقي.

يُقال هناك أحد المثقفين الأجانب، لما صُنع التلفزيون، قال “مات الابداع، سُئل: لماذا؟ قال الإبداع يتطلب السؤال والجواب والمناقشة، التلفزيون أنت مسترسل أمامه، أنت متلقن أمامه، لا تستطيع أن تناقش..!

المشكلة في هذا النوع من التسيبات هي أنها تخرج بالإنسان عن مسار الحكمة، فلا يتعلم بطريقه صحيحة ولا يحسن التصرف بطريقة صحيحة، في السابق، الآباء السابقون كانوا يصرّون على أبنائهم أن يحضروا مجالس الكبار، ويمل كثير من الأبناء والشباب، يمل من مجلس الكبار، يقول أنا ما يعجبني..!

أنت تحتاج الى المعلومة والخبرة التي مرّ بها كبار السن، يختصرون عليك الزمن، لماذا تحتاج أن تقع في الخطأ حتى تتجنبه، إذا حضرت مجالس من هم أكثر خبرة منك، تسمع منهم الخطأ وتتعرف على الجواب، فتتجنبه، تختصر على نفسك عشرات من التجارب، وكذلك الكلام، كيف تتعامل مع الآخرين، فإذن، هذا شكل من أشكال الحكمة.

نسأل الله عز وجل، أن نكون وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

اللهم صل على محمد وآل محمد، اللهم كن لوليك الحجةِ بن الحسن صلواتك عليه وعلى آبائه في هذه الساعة وفي كل ساعة ولياً وحافظا وقائداً وناصرا ودليلاً وعينا، حتى تسكنه أرضك طوعا وتمتعه فيها طويلا.

اللهم انصر الإسلام والمسلمين واخذل الكفار والمنافقين، اللهم اشف مرضانا وارحم موتانا وأغن فقرائنا وأصلح ما فسد من أمر ديننا ودنيانا ولا تخرجنا من الدنيا حتى ترضا عنا يا كريم، وصلى الله على محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى